القواعد الفقهية (منتقى الاصول) المجلد 5

اشارة

نام كتاب: القواعد الفقهية (منتقى الاصول)

موضوع: قواعد فقهى

نويسنده: قمّى، سيد محمد حسينى روحانى

تاريخ وفات مؤلف: 1418 ه ق

زبان: عربى

قطع: وزيرى

تعداد جلد: 3

ناشر: چاپخانه امير

تاريخ نشر: 1413 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: قم- ايران

مقرر: حكيم، شهيد، سيد عبد الصاحب بن سيد محسن طباطبايى

تاريخ وفات مقرر: 1403 ه ق

ملاحظات: قاعده تسامح در ج 4 و ميسور و نفى ضرر در ج 5 و قواعد يد و أصالة الصحة و فراغ و تجاوز و قرعة در ج 7 چاپ شده است

«قاعدة الميسور»

اشارة

و أما فيما يرتبط بالدليل الاجتهادي، فقد ادعي ثبوت الاخبار الدالة على وجوب الباقي عند تعذر بعض الاجزاء. و استفيد من هذه الاخبار قاعدة يصطلح عليها ب: «قاعدة الميسور». و هذه الاخبار ثلاثة مروية في غوالي اللئالي:

الأول- النبوي الشريف و هو-: انه خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال: «ان اللّه كتب عليكم الحج. فقام عكاشة أو سراقة بن مالك فقال: في كل عام يا رسول اللّه؟ فأعرض عنه، حتى أعاد مرتين أو ثلاثا، فقال:

و يحك و ما يؤمنك أن أقول نعم، و اللّه لو قلت نعم لوجب و لو وجب ما استطعتم، و لو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، و انما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم و إذا نهيتكم عن شي ء فاجتنبوه» «1».

و الثاني- العلوي الشريف و هو-: قول علي عليه السلام: «الميسور لا يسقط بالمعسور» «2».

و الثالث- العلوي الشريف أيضا و هو-: قوله عليه السلام: «ما لا يدرك كله لا يترك كله» «3».

و يقع الكلام في

كل واحد من هذه الاخبار على حدة.

أما النبوي: فمحل الاستشهاد به هو قوله صلى اللّٰه عليه و آله: «إذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم». فانه ظاهر في وجوب الإتيان بالاجزاء التي يتمكن منها،

______________________________

(1) عوالي اللئالي 4- 58.

(2) عوالي اللئالي 4- 58.

(3) عوالي اللئالي 4- 58.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 287

مع تعذر الباقي.

و قد استوضح الشيخ رحمه اللّه دلالتها على المدعى جدا، و بنى ذلك على ظهور لفظ: «من» في التبعيض «1».

و توضيح ذلك كما أشار إليه المحقق الأصفهاني (قدس سره): ان لفظ:

«شي ء» اما ان يراد منه المركب أو العام أو الكلي و الطبيعة. و لفظ: «من» إما ان يراد بها معنى التبعيض أو تكون بيانية أو بمعنى الباء.

و من الواضح انها انما تفيد المدعى لو أريد من الشي ء المركب و كانت:

«من» تبعيضية، فانها تكون ظاهرة في انه إذا تعلق الأمر بمركب ذي اجزاء فأتوا بعضه الّذي تستطيعونه.

أما إذا أريد من: «من» معنى الباء، فتكون ظاهرة في إرادة انه إذا تعلق الأمر بشي ء فأتوا به مدة استطاعتكم، و من الواضح انه أجنبي عما نحن فيه.

كما أنه إذا كان المراد من: «من» البيان، كانت ظاهرة في انه إذا تعلق الأمر بكلي فأتوا من افراده ما استطعتم. و ذلك أجنبي عن المدعى بالمرة.

و قد أفاد المحقق الأصفهاني في تقريب كلام الشيخ: انه لا معنى لكون «من» بيانية في خصوص الرواية، ضرورة ان مدخولها لا يصلح بيانا للشي ء، لأنه الضمير و هو مبهم.

و أما كونها بمعنى الباء، فالذي يوهمه عدم تعدي الإتيان بنفسه، و انما يتعدى بالباء، فيقال: «أتيت به» بمعنى أوجدته. و لكن الأمر ليس كذلك، إذ الإتيان يتعدى بنفسه تارة كقوله تعالى: وَ اللّٰاتِي

يَأْتِينَ الْفٰاحِشَةَ «2» و قوله تعالى: وَ لٰا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلّٰا قَلِيلًا «3». و يتعدى بالباء أخرى كقوله تعالى:

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 294- الطبعة الأولى.

(2) سورة النساء الآية: 15.

(3) سورة الأحزاب الآية: 18.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 288

يَأْتِينَ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ «1». و عليه فلا يتعين كونها بمعنى الباء في الرواية.

و أما لفظ: «الشي ء»، فلا يراد به العام الاستغراقي، لأنه يعبر به عن الواحد و لا يعبر عن المتعدد، و انما يعبر عنه بأشياء، فلو أراد العام لناسب أن يعبر بأشياء.

كما ان إرادة الطبيعة و الكلي في: «منه» ممكنة في حد نفسه، إلا ان إرادة الكلي في المقام ممتنعة، الا انه لا يناسب التبعيض، إذ الفرد مصداق للكلي لا بعضه، فيتعين ان يراد به المركب ذو الاجزاء. فتكون دالة على المدعى «2».

هذا تقريب دلالة الرواية على المدعى.

لكن هاهنا إشكالا نبّه عليه في الكفاية «3» و تبعه عليه غيره «4» و هو: أن مورد الرواية لا يتلاءم مع المركب ذي الاجزاء، بل يلائم الكلي ذي الافراد، إذ المسئول عنه هو وجوب تكرار الحج و عدمه بعد تعلق الأمر به، و بمقتضى البيان المزبور للجواب لا يكون الجواب مرتبطا بالسؤال، و لأجل ذلك ذهب البعض إلى إجمال الرواية أو التصرف في لفظ: «من» بحمله على معنى الباء أو كونها بيانية، إذ يرتفع التنافي بذلك كما لا يخفى.

و اما المحقق الأصفهاني، فقد ذهب إلى كون مقتضى التحقيق: ان: «من» ليست بمعنى التبعيض بعنوانه كي لا يتلاءم مع إرادة الكلي من الشي ء، بل هي لمجرد اقتطاع مدخولها من متعلقه، و هذا الاقتطاع قد يوافق التبعيض أحيانا، و بما ان الفرد منشعب من الكلي لانطباقه عليه،

صح اقتطاع ما يستطاع منه، فلا يتعين مع ذلك إرادة المركب، بل يراد من: «الشي ء» الكلي و يراد من لفظ: «منه»

______________________________

(1) سورة النساء الآية: 19.

(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2- 298- الطبعة الأولى.

(3) الخراسانيّ المحقق محمد كاظم كفاية الأصول- 370- طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

(4) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول 4- 254- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 289

من افراده، و تكون ما موصولة لا مصدرية ظرفية. فيتلاءم مع مورد الرواية و السؤال «1».

أقول: ما أفاده (قدس سره) و ان استلزم حل المشكلة، لكن كون: «من» بمعنى الاقتطاع لا بمعنى التبعيض لا طريق إلى إثباته، و انما هو مجرد تصور و فرض، فلا نستطيع الجزم به كما لا نجزم بعدمه، و مثله لا يكفينا في حلّ المشكلة.

فالمتعين أن يقال في معنى الرواية: انه لا يحتمل ان يكون المراد من قوله صلى اللّٰه عليه و آله: «إذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم» هو الأمر بتكرار المأمور به قطعا إذ ظاهر الصدر انه ليس بواجب- بملاحظة قوله: «ويحك ...». و بذلك يظهر غفلة الاعلام (قدّست أسرارهم) عن هذا الأمر الواضح، إذ تصوروا دلالة الرواية على التكرار لو حملت: «من» على معنى الباء أو البيانية، فلاحظ كلماتهم-. مضافا إلى ان عدم وجوب تكرار الحج من القطعيات، بل الّذي يراد به هو الأمر به في حال الاستطاعة.

و لا يخفى ان عدم عموم قوله المزبور- على هذا التفسير-، للأمر بالطبيعة و الأمر بالمركب إنما ينشأ من تخيل ان مقتضى حمله على المركب يقتضي تقييد الموضوع بصورة تعذر بعض اجزائه، و مقتضى حمله على الكلي يقتضي عدم تقييده، إذ المفروض

تعلق الأمر به و البعث نحوه بلا نظر لمرحلة تعذر بعض اجزائه. و لكنه تخيل فاسد، إذ لا داعي لهذا التقييد لو أريد به المركب، إذ ليس المراد هو الأمر بالمستطاع من الاجزاء مع تعذر البعض، بل المراد هو الأمر بالمركب بمقدار ما يستطيعه المكلف منه، فان كان مستطيعا على الكل وجب الجميع، و إلا وجب البعض.

و هذا نظير ان يقول المولى لعبده بعد أمره بمجموعة أجزائه: «ائت

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2- 299- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 290

بالذي تستطيعه» فإذا استطاع على الكل وجب عليه الكل. إذن فقوله: «إذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم»، يمكن ان يعم حالتي التعذر و عدمه، فيمكن ان يعم الكلي و هو مورد الرواية، و انه يلزم الإتيان به، و يعم المركب الّذي تعذر بعض أجزائه مع التحفظ على ظهور «من» في التبعيض.

و بالجملة: يكون قوله المزبور كناية عن ان الأمر بالمركبات بنحو تعدد المطلوب. إذن فهذه الجملة قابلة للدلالة على المدعى مع عدم منافاتها لمورد الرواية.

يبقى شي ء و هو: ان هذا الجواب بهذا المقدار لا يرتبط بالسؤال عن وجوب التكرار في الحج و عدمه، إذ وجوب الإتيان بالمأمور به معلوم لدى السائل، و لزوم الإتيان ببعض اجزائه مع تعذر غيرها لم يقع موردا للسؤال.

فنقول: ان الجواب مرتبط بالسؤال بلحاظ إفادته الحصر الدال على نفى التكرار، فان النبي صلى اللّٰه عليه و آله بعد ما وبّخ السائل على تطفله و إلحاحه و طلب منه الانصراف عن كثرة السؤال، ذكر له انه عند الأمر بشي ء يلزم الإتيان به خاصة و بهذا المقدار و لا يلزم شي ء آخر.

و هذه الجهة- أعني: جهة

الحصر- لا بد من ملاحظتها على أي تقدير، سواء أريد من: «من» التبعيض كما قربناه، أم كونها بمعنى الباء أو غير ذلك، إذ لو كانت بمعنى الباء كان معنى قوله: «إذا أمرتكم ...» هو انه يجب الإتيان بالشي ء المأمور به عند الاستطاعة، و هذا ليس محل سؤال بل مما لا يجهله السائل، فلا يرتبط الجواب بالسؤال، إلا بتضمين الجواب جهة الحصر. نعم لو احتمل كونه في مقام لزوم التكرار بمقدار الاستطاعة لم نحتج إلى الحصر، إذ الجواب يرتبط بالسؤال بوضوح. و لكن عرفت انه لا مجال لتوهم إرادة ذلك، بل الجواب اما يتكفل الأمر بالشي ء حال الاستطاعة لو أريد من لفظ: «من» معنى الباء أو يتكفل ما ذكرناه لو أريد من لفظ: «من» التبعيض. و على أي تقدير لا

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 291

يرتبط بالسؤال إلا بتضمينه معنى الحصر. فهذه الجهة مما نحتاج إليها على كل تقدير بملاحظة السؤال، و هي مستفادة على ما عرفت من كيفية الجواب و مقدماته، و ليست أمرا خفيا في الكلام.

و محصل ما ذكرناه: ان الرواية تتكفل بيان أمرين:

أحدهما: لزوم الإتيان بالشي ء خاصة عند الأمر به و عدم لزوم شي ء آخر وراءه.

و الآخر: ان الأمر بالشي ء المركب بنحو تعدد المطلوب و المراتب.

و بلحاظ هذه الجهة الثانية تكون دالة على المدعى بوضوح.

و ما ذكرناه واضح بنظرنا من الرواية و ظاهر بقليل من التأمل، و بذلك تنحل المشكلة، و نجمع بين تكفل الرواية لما نحن فيه مع ارتباطها بمورد السؤال.

فالتفت و تدبر، فانه لم يسبق بيانه فيما تقدم.

و أما قوله عليه السلام: «الميسور لا يسقط بالمعسور». فجهة الاستدلال بها واضحة، لكن نوقش في دلالتها: بان المراد بها ان حكم

الميسور لا يسقط بسبب سقوط حكم المعسور. و ذلك لأن السقوط لا يحمل على نفس الميسور، لأنه فعل المكلف، و لا معنى لسقوطه و بقائه، و انما الّذي يقبل السقوط هو الحكم، فيراد من النص ما عرفت. و لا يخفى ان مرجع ذلك إلى الحكم ببقاء الحكم الثابت للميسور و استمراره.

و من الواضح ان النص بهذا المعنى لا يشمل المركب الّذي يتعذر بعض اجزائه، إذ الحكم الّذي كان ثابتا للميسور من الاجزاء هو الأمر الضمني، و هو مرتفع قطعا بتعذر الكل لسقوط الأمر بالكل، فلا مجال للحكم بعدم سقوطه.

و ببيان آخر: ان الأمر الّذي كان ثابتا للميسور من الاجزاء هو الأمر الضمني، و هو مرتفع بارتفاع الأمر بالكل، فإذا فرض ثبوت أمر للميسور بعد التعذر كان أمرا استقلاليا، و هو لا يعد بقاء للأمر الأول. و قد عرفت ان مفاد النص هو الحكم

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 292

ببقاء الحكم الأول و عدم سقوطه.

و عليه، فلا بد ان تحمل الرواية على موارد الأحكام المستقلة التي يتوهم سقوط بعضها بسقوط الآخر، كما إذا كانت منشأة بدليل واحد، نظير: «أكرم كل عالم» مع تعذر إكرام بعض افراد العالم، فتحمل على مورد العموم الأفرادي.

و الجواب عن هذه المناقشة بما ذكره الشيخ رحمه اللّه:

أولا: من إمكان التحفظ على اسناد السقوط إلى الميسور نفسه بلا حاجة إلى تقدير الحكم، بان يراد من عدم سقوطه بقاؤه في العهدة و في عالم التشريع و الجعل، فانه وظيفة الشارع، فيدل على تعلق الأمر به بقاء، و لو كان أمرا آخر غير الأول، إذ تعدد الأمر لا يغيّر ثبوت المتعلق في العهدة و يصدق معه بقاء المتعلق في العهدة حقيقة.

و عليه، فتكون

الرواية شاملة للمركب إذا تعذر بعض اجزائه.

و ثانيا: لو سلم ان المسند إليه السقوط هو الحكم بتقديره في الكلام، فهي تشمل المركب أيضا، لأن بقاء الحكم صادق عرفا عند ارتفاع الأمر الضمني عن الميسور من الاجزاء و تعلق الأمر المستقل بها، لمسامحة العرف في النفسيّة و الغيرية، فلا يرونهما إلا من حالات الوجوب لا من مقوماته، و لذلك يعبّرون عن تعلق الوجوب بالميسور ببقاء وجوبه و عن عدم تعلقه بارتفاع وجوبه. و قد تقدم نظير هذا الكلام في استصحاب الوجوب «1».

و الحاصل: ان الرواية ظاهرة في بقاء الميسور في عهدة المكلف، لا بهذا اللفظ- أعني: لفظ العهدة كي يدعى عدم شمولها للمستحبات، لأنها لا عهدة لها، و إن كان هذا الكلام محل نظر-، بل بما يساوقه من كونه مجعولا على المكلف و نحو ذلك، فيدل على بقائه بما له من الحكم سابقا من وجوب أو استحباب، فيعم

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 294- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 293

الواجبات و المستحبات.

و لوضوح الكلام في هذه الرواية تماما لا بد من التنبيه على جهتين:

الجهة الأولى: قد عرفت في مقام بيان معنى الرواية تفسير السقوط و عدمه بما يساوق الارتفاع و البقاء الظاهر في لزوم تحقق الحكم حدوثا كي يرتفع أو يبقى، نظير مفاد دليل الاستصحاب.

هذا و لكن المراد بالسقوط هاهنا عدم الثبوت أعم من الارتفاع بعد الحدوث و من عدم الحدوث، نظير ما يقال في حديث الرفع من ان المراد بالرفع أعم من الدفع و الرفع، فلا يراد من عدم السقوط هو الحكم بالبقاء، بل أعم من الحكم بالبقاء و من الحكم بالحدوث. و ذلك لوجهين:

الأول: ان السقوط عرفا يستعمل في

الأعم من الارتفاع بعد الحدوث و من عدم الحدوث رأسا، فيقال للنائم قبل الوقت إذا استغرق نومه جميع الوقت ان التكليف بالصلاة عنه ساقط- بلا أي مسامحة في التعبير-، مع انه لم يسبق حدوث التكليف في حقه. و هكذا للمسافر قبل الوقت، يقال له إن التكليف بالتمام عنه ساقط مع انه لم يحدث في حقه. و يقال للحائض ان التكليف بالصلاة ساقط عنها، مع عدم حدوثه في حقها. و الأمثلة على ذلك كثيرة مما يدل على ان السقوط بنظر العرف أعم من الارتفاع بعد الحدوث و من عدم الحدوث رأسا.

الثاني: ان العلماء جميعا يتمسكون بالقاعدة في موارد تحقق التعذر من أول الوقت و لم يعهد من أحد منهم تخصيص النص بما إذا طرأ العذر بعد دخول الوقت، و التوقف فيه فيما إذا تحقق العذر من أول الوقت، و هذا الأمر أوضح من أن يخفى. فيدل على ان المرتكز في أذهانهم ما ذكرناه من عموم السقوط، و إن جاء في كلماتهم في مقام بيان معنى الرواية حملها على إفادة الحكم بالبقاء كدليل الاستصحاب. فتدبر.

هذا، و لكن مجرد عدم الحدوث لا يصحح صدق السقوط، إذ كثيرا ما لا

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 294

يصدق السقوط عند عدم حدوث التكليف، بل انما يصدق السقوط على عدم الحدوث فيما كان هناك مقتض للثبوت، سواء كان مقتضيا بلحاظ مقام الثبوت أم بلحاظ مقام الإثبات، و انما لا يثبت الحكم لوجود مانع- مثلا-.

أما مع عدم المقتضي فلا يصدق السقوط على عدم ثبوت الحكم، كما لا يخفى على من لاحظ الأمثلة العرفية.

و من هنا قد يشكل صدق السقوط على عدم ثبوت التكليف بالاجزاء الميسورة مع تعذر بعضها، لعدم إحراز المقتضي

ثبوتا فيها و هو الملاك، إذ لا يعلم انها واجدة لملاك الوجوب أو لا. و عدم وجوب المقتضي إثباتا و هو الدليل، إذ الموجود من الدليل على ثبوت الحكم هو الدليل على الأمر بالكل و هو مرتفع قطعا بالتعذر، فلا دليل على ثبوت الحكم في الميسور كي يكون عدم ثبوته سقوطا.

و لكن يمكن التفصي عن هذه المشكلة بوجهين- بعد الجزم بصدق السقوط و عدمه بالنسبة إلى الاجزاء في هذا الحال عند عدم ثبوت التكليف بها أو ثبوته-:

أحدهما [1]: الالتزام بالاكتفاء بالمقتضي على تقدير عدم التعذر و عدم لزوم وجود المقتضي الفعلي، فان ملاك الحكم في الاجزاء الميسورة ثابت عند عدم تعذر غيرها. و هذا الملاك الثابت يصحح صدق السقوط عند حصول التعذر.

و الآخر: ان نفس المقتضي لثبوت التكليف بالكل المصحح لصدق سقوطه، يكون مقتضيا لثبوت التكليف بالميسور من الاجزاء، بنحو من المسامحة

______________________________

[1] لعله إلى ذلك ينظر الشيخ في قوله (يعني ان الفعل الميسور إذا لم يسقط.). خصوصا بملاحظة قوله عند التكلم في الشروط: «و اما الثانية فاختصاصها كما عرفت سابقا بالميسور الّذي كان له مقتضى للثبوت ...» إذ لم يسبق منه ما يشير إلى ذلك غير تلك العبارة. و ان كان بعيدا لعله ينظر إلى ما رامه السيد الأستاذ في تعميم القاعدة لصورة التعذر من أول الوقت فتأمل في كلامه. منه.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 295

في متعلق الحكم النفسيّ و فرضه الأعم من الواجد و الفاقد- كما تقدم نظيره في الاستصحاب-.

و الفرق بين هذين الوجهين من الناحية العملية، هو انه ان بنينا على الثاني و صححنا صدق السقوط بناء عليه، لم تجر القاعدة إلا في ما كان الميسور معظم الاجزاء، بحيث تصح

المسامحة فيه عرفا بفرضه نفس الواجب النفسيّ، دون ما كان الباقي اجزاء قليلة من المركب، إذ لا يرى العرف وحدته مع الكل، فلا يثبت له المقتضي لثبوت الحكم فيه.

و أما إن صححنا صدق السقوط بناء على الوجه الأول، كانت القاعدة جارية و لو مع كون الميسور قليلا جدا، لثبوت المقتضي التقديري فيه، فيصح نسبة السقوط و عدمه إليه.

و بما انا نرى صدق السقوط عرفا على الأجزاء الميسورة و لو كانت قليلة، كان ذلك كاشفا عن كون الملحوظ في المصحح هو الوجه الأول لا الثاني. فانتبه.

الجهة الثانية: قد عرفت تقريب دلالة الرواية على بيان عدم سقوط الميسور من الاجزاء عند تعسر بعضها. و قد ناقشها صاحب الكفاية باحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من افراد العام بالمعسور منها «1».

و هذه المناقشة بهذا المقدار خارجة عن الأسلوب العلمي، و مجرد الاحتمال لا ينفع في قبال الظهور المدعى، فمع الاعتراف بالظهور لا معنى للتوقف لمجرد الاحتمال. و لو كان هو في مقام التشكيك في الظهور- كما يظهر من كلامه- فكان يلزمه أن يبين جهة التشكيك و ينبّه عليها و لا معنى للاكتفاء بإلقاء الاحتمال فقط.

ثم إنه لا مانع من شمول النص لكلا الموردين، فيدلّ على عدم سقوط

______________________________

(1) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول- 371- طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 296

الميسور من الاجزاء بمعسورها، كما يدل على عدم سقوط الميسور من افراد العام بالمعسور منها، فلا وجه لترديده بينهما و توقفه عن الجزم بأحدهما.

و كيف كان لا بد من تحقيق هذه الجهة- أعني الالتزام بعموم النص للمركب الّذي تعذر بعض اجزائه و للطبيعة التي يتعذر بعض افرادها. و بعبارة أخرى: للأحكام

المستقلة التي يتعذر بعضها- بنحو يرتفع الغموض عن بعض جهاتها. فنقول: إنه كما يتأتى احتمال سقوط الأجزاء الميسورة عند تعذر غيرها، كذلك يتأتى هذا الاحتمال لبعض في الأحكام الاستقلالية، بأن يكون هناك حكمان استقلاليان مجعولان بنحو يتوهم الارتباط بينهما في الثبوت و السقوط.

و هذا لا ينافي استقلاليتهما إذ الارتباط بين الحكمين لا يلازم الارتباط في متعلقيهما، بل يكون لكل منهما إطاعة و عصيان على حدة، لكن لا يثبت أحدهما بدون الآخر لمصلحة تقتضي جعلهما كذلك، فإذا تعذر امتثال أحدهما جاء احتمال سقوط الآخر.

و إذا تصورنا هذا ثبوتا في الأحكام الاستقلالية. فنقول: ان الحكم الميسور امتثاله من الحكمين إن كان له دليل إثباتي بعد التعذر واضح، فهو يدفع احتمال سقوطه، فلا تكون القاعدة ناظرة إليه.

و ذلك نظير الأحكام التي يتكفلها دليل واحد بنحو العموم- مثل: «أكرم كل عالم»-، فانه مع تعذر إكرام بعض العلماء يكون العام حجة و دليلا على ثبوت الحكم للباقي، و حجيته في الباقي عرفا لا تقبل التشكيك و الإنكار، و إن اختلف العلماء في وجهها، من كونه أقرب المجازات، أو بالدلالة الضمنية، أو غير ذلك على ما تقدم تحقيقه في محله.

ففي مثل ذلك يستبعد جدا نظر الرواية إليه، لعدم توهم السقوط بلحاظ الدليل الإثباتي الواضح على عدمه، فلا نقول بأنه ممتنع- كما جاء في كلمات

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 297

المحقق الأصفهاني «1»-، بل نقول بأنه مستبعد جدا.

و أما إذا لم يكن له دليل إثباتي بعد التعذر، فالرواية ناظرة إليه، نظير ما لو قال: «أكرم العشرين عالما» بنحو يكون كل فرد محكوما بحكم مستقل و تعذر إكرام زيد العالم منهم، فاحتمل سقوط الباقي، فان لفظ: «العشرين» ليس من ألفاظ العموم

كي يكون حجة فيما بقي، بل هو عنوان يعبر عن المجموع، فلا يمكن ان يصدق على الأقل منه.

و عليه، فلا يكون حجة فيما بقي كما حققناه في مبحث العموم و الخصوص.

و لذا التزمنا هناك، بان الدليل الدال على عدم إكرام أحد العشرين يكون معارضا للدليل الدال على إكرام العشرين لا مخصصا له. إذن فتوهم السقوط لا دافع له في مثل ذلك، فالرواية تنظر إليه و تفيد عدم سقوط الميسور من الافراد بسبب المعسور. و مثله ما لو قال: «صم شهر رجب» فتعذر صوم بعض أيامه، و كان صوم كل يوم ملحوظا واجبا مستقلا، لا ان المجموع محكوم بحكم واحد.

فظهر مما حققناه: ان الرواية كما تشمل المركبات إذا تعذر بعض اجزائها، تشمل موارد الأحكام الاستقلالية التي يتكفلها دليل واحد بعنوان يعبر عن عدد خاص لا بعنوان عام. فالتفت و تدبر.

و أما العلوي الآخر، و هو قوله عليه السلام: «ما لا يدرك كله لا يترك كله». فجهة الاستدلال به على المدعى واضحة، و قد نوقش الاستدلال به بمناقشات تعرض إليها الشيخ و أجاب عنها فلا يهمنا التعرض إليها «2».

و إنما المهم تحقيق المراد بالرواية، و هو يظهر بمعرفة المراد من الموصول و لفظ: «كل» في الموضعين. فنقول:

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين نهاية الدراية 2- 299- الطبعة الأولى.

(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 295- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 298

أما الموصول، فهو- كما أفاد الشيخ- لا يكنّى به عن المتعدد، و انما يكنّى به عن الواحد، فيراد به الفعل الواحد لا الأفعال المتعددة كي يدعى انه يكون دالا على ان الأفعال المتعددة لا يسقط بعضها إذا تعذر البعض الآخر، فيكون مختصا بمورد تعلق

الحكم بافراد العام بنحو العموم الاستغراقي، فلا يشمل صورة تعذر بعض أجزاء المركب الّذي هو موضوع الكلام فيما نحن فيه. فالمراد بما هو فعل المكلف، أعم من الطبيعة و المركب، فيكون النص دالا على عدم سقوط بعض افراد الطبيعة عند عدم إدراك البعض الآخر، كما يكون دالا على عدم سقوط بعض اجزاء المركب إذا تعذر البعض الآخر.

و اما لفظ: «كل». فقد ذكر الشيخ رحمه اللّه ان المراد به المجموع، و لا يمكن ان يحمل على العموم الاستغراقي، إذ إرادة العموم الاستغراقي منه تقتضي ان يكون المفاد: ان الافراد و الاجزاء التي لا يدرك شي ء منها لا يترك كل واحد واحد منها، و هذا مما لا معنى له، إذ مع عدم التمكن من كل فرد فرد كيف يؤمر بكل فرد فرد؟.

و لكن نقول: انه كما لا يمكن ان يراد ب: «كل» ما أفاده الشيخ (رحمه اللّه) لا يمكن ان يراد به المجموع أيضا، إذ بعد فرض عدم التمكن من المجموع كيف يؤمر به؟، فانه متعذر على الفرض.

و حل المشكلة بما أفاده المحقق العراقي و توضيحه: ان الامتناع إرادة العموم الأفرادي من لفظ: «كل» انما يتم لو فرض ان العموم وارد على السلب- المعبر عنه اصطلاحا بعموم السلب- بحيث يراد سلب القدرة عن كل فرد فرد، و معه لا معنى للنهي عن ترك كل فرد فرد- كما أفاد الشيخ-. و ليس الأمر كذلك بل السلب وارد على العموم، فالمراد هو سلب العموم الّذي يتحقق بانتفاء بعض الافراد، نظير قولنا: «ليس كل عالم عادل»، فان النفي لم يتوجه للمجموع، إذ العدالة ليست من صفات المجموع، كما انه لا يراد نفي العدالة

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 299

عن كل فرد فرد من افراد العالم، بل المقصود بيان نفي العدالة عن عموم الافراد و بيان انها ليست ثابتة لكل فرد فرد.

و عليه، فالمراد في قوله: «ما لا يدرك كله» عدم إدراك عموم الافراد أو الاجزاء بنحو سلب العموم. و هكذا المراد بقوله: «لا يترك كله» يراد به النهي عن الترك بنحو سلب العموم الراجع بحسب الظهور العرفي إلى النهي عن الجمع بين التروك، فلفظ: «لا» متعلق بالترك بنحو سلب العموم لا عموم السلب.

و مثل هذا الاستعمال كثير عرفا، و يراد به ما ذكرناه من انه إذا لم يدرك المكلف إتيان جميع الافراد و الاجزاء فلا يترك الجميع بنحو لا يأتي بأي فرد أصلا.

و قد عرفت ان أساس ذلك على توجه النفي إلى ترك الجميع، و نفي ترك الجميع يتحقق بالإتيان بالبعض. فالتفت و لا تغفل «1».

و كيف كان فقد عرفت دلالة النص على المدعى بحسب الظهور العرفي.

و قد استشكل فيه صاحب الكفاية: بأنه لا ظهور له في حرمة الترك لعموم الموصول للمستحبات، و تخصيص الموصول بالواجبات ليس بأولى من حمل النهي على الكراهة أو مطلق الطلب «2».

و قد تعرض الشيخ رحمه اللّه إلى هذا الإشكال، و دفعه: بان الموصول في نفسه يشمل المباحات بل المحرمات، و انما خصصناه بالراجح بقرينة قوله: «لا يترك»، فإذا كان قوله: «لا يترك» قرينة على المراد بالموصول لزم حمل الموصول على خصوص الواجبات عملا بظهور القرينة، و لا مجال لتخيل تقدم ظهور

______________________________

(1) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار- 3- 457- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(2) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول- 372- طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 300

الموصول، إذ ظهور

القرينة هو المحكم و المقدم عرفا «1». و هذا الكلام للشيخ متين جدا.

لكن الّذي نستظهره من الرواية عموم الموصول للمستحبات، مع التحفظ على ظهور: «لا يترك» في الوجوب. بيان ذلك: ان الإنسان قد يطلب منه شي ء و تعرض حالة يتوهم فيها المأمور عدم لزوم العمل، فيقول له القائل لا تترك العمل في هذه الحالة، أو لا يسوغ لك ترك العمل لأجل هذه الجهة، و مقصود القائل ليس إنشاء الأمر و الإلزام، بل قد لا يكون ممن شأنه الأمر و الإلزام، بل مقصوده الكناية عن بقاء الأمر السابق و عدم سقوطه في هذه الحالة، و يتأتى هذا حتى فيما كان الأمر السابق هو الاستحباب لا الوجوب، فيقول له- مثلا- ان التعب لا يسوّغ لك ترك صلاة الليل، أو لا تترك صلاة الليل لأجل التعب، إذا تخيل المكلف سقوط استحبابها لأجل التعب. و من الواضح ان: «لا يسوّغ» صحيح في الإلزام. لكن قد عرفت ان هذا الالتزام لا يعدو مجرد اللفظ و ليس القصد إنشاء الإلزام حقيقة في هذا الكلام، و انما القصد إلى بيان بقاء الأمر و عدم سقوطه.

و ما نحن فيه من هذا القبيل، فان قوله: «لا يترك كله» و ان أنشئ به الإلزام لكن ليس المراد الأصلي به في هذا الكلام هو الإلزام بعدم الترك كي يختص بالواجبات، بل يراد به بيان ان تعذر بعض الاجزاء لا يسوّغ ترك المطلوب بالكلية و هو كناية عن بقاء الأمر الأول، فلا مانع من عمومه للمستحبات، فيكون مثل العلوي الأول الّذي يعم الواجبات و المستحبات.

و بالجملة: الأمر هاهنا لا يراد به إلا المدلول الكنائي و هو لازمه من بقاء الأمر الأول على ما كان و عدم سقوطه،

فلا مانع من استعماله في الوجوب و عموم

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول- 295- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 301

الموصول للمستحبات، فهو نظير الأمر الواقع عقيب الحظر أو توهمه، أو النهي الواقع عقيب الأمر أو توهمه، في عدم إرادة المدلول المطابقي منهما، بل يراد الكناية عن ارتفاع التحريم في الأول و ارتفاع الإيجاب في الثاني. فتدبر.

هذا تمام الكلام في دلالة الروايات على المدعى، و قد عرفت تقريب دلالتها بأجمعها، فهي من حيث الدلالة لا كلام فيها.

و أما من حيث السند، فهي ضعيفة السند، و لكن ادعي انجبارها بعمل المشهور.

أقول: لو ثبت شهرتها بين القدماء كشهرتها بين المتأخرين حتى قيل ان القاعدة مما يعرفها الأطفال و النسوان، كان ذلك موجبا لليقين بصحتها، و لو لم نبن علي انجبار الضعف بعمل المشهور كلية، إذ التسالم على هذه النصوص يزيد على الشهرة. و بما انه لم يثبت ذلك لدينا، و هو محتاج إلى مزيد فحص، فالاحتياط في مواردها مما لا بأس به.

يبقى التنبيه على أمرين:

التنبيه الأول: في عموم القاعدة لتعذر الشرط أو الركن

، و في اختصاصها بصورة القدرة على معظم الأجزاء.

و تحقيق الكلام في ذلك: ان الميسور تارة: يراد به الميسور من المراتب، بان يكون الشي ء ذا مراتب متعددة فيقال ان الميسور من المرتبة لا يسقط بالمعسور منها. و أخرى: يراد به الميسور من الاجزاء. و الفرق بين اللحاظين، انه يعتبر على الأول ان يكون الميسور مصداقا من مصاديق الطبيعة، و إلا لم يكن من مراتبها.

و ليس الأمر كذلك على الثاني، إذ جزء الشي ء لا يلزم ان يكون مصداقا له و فردا من أفراده.

ثم إنه ..

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 302

تارة: يلتزم بتقدير أمر في قوله: «الميسور لا يسقط بالمعسور»، فيلتزم

..

إما بإضافة الميسور إلى عنوان: «شي ء»، فيكون المراد ميسور الشي ء لا يسقط بمعسوره، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف مع وحدته، فكأنه قال:

«الصلاة الميسورة لا تسقط بالصلاة المعسورة» فيكون المراد بالميسور و المعسور شيئا واحدا.

و إما بتقدير: «من الشي ء» بعد الميسور و المعسور، فيراد: الميسور من الشي ء لا يسقط بالمعسور منه، على ان تكون: «من» تبعيضية، فيكون المراد من الميسور غير المراد بالمعسور، فيراد من الميسور اجزاء و من المعسور اجزاء أخرى، فلا تسقط الاجزاء الميسورة بواسطة الاجزاء المعسورة من العمل الواحد.

و أخرى: لا يلتزم بالتقدير أصلا، بل يراد كل ما هو ميسور لا يسقط بسبب ما هو المعسور.

فالاحتمالات المتصورة ثلاثة:

و على الاحتمال الأول، يختص جريان القاعدة بما إذا كان الباقي المقدور مما ينطبق عليه عنوان العمل، إذ المفروض لحاظه مقسما لليسر و العسر، فتكون القاعدة مساوقة لبيان الميسور بلحاظ المراتب، فلا تشمل فاقد الركن إذا فرض تقوّم المسمى به، كما لا تشمل فاقد المعظم لعدم صدق الصلاة- مثلا- عليه. كما انها تشمل فاقد الشرط مع صدق المسمى عليه على إشكال يأتي دفعه.

و على الاحتمال الثاني، فيمكن ان يراد بها الميسور من الاجزاء و المراتب.

و عليه فتعم فاقد الركن أو المعظم و ان لم يصدق المسمى عليه، لأنه ميسور من اجزاء العمل، و ان لم يكن من مراتبه.

نعم لا يشمل فاقد الشرط إلا بتصور التبعيض فيه عرفا، و كون فاقد الشرط و واجده من قبيل الأقل و الأكثر و البعض و الكل، و هو على تقديره انما

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 303

يتصور في بعض الشروط كما سننبه عليه.

و على الاحتمال الثالث، تشمل فاقد الركن و المعظم، إذ هو ميسور في نفسه كما

تشمل فاقد الشرط أيضا، فانه ميسور في نفسه، فلا يسقط بواسطة المعسور و هو واجد الشرط، و لا يتوقف ذلك على تصور التبعيض لعدم أخذه فيها.

نعم هنا شي ء، و هو انه قد عرفت ان السقوط لا يصدق الا في مورد يكون للميسور مقتض للثبوت فلا يثبت، فلا يصدق في مطلق موارد عدم الثبوت. و من الواضح ان فاقد الشرط بما انه يباين واجد الشرط فلا يكون له مقتض للثبوت، فلا يصدق سقوط الفاقد على عدم ثبوت الحكم له.

و الجواب عن هذا الإشكال: ان الشروط على قسمين ..

فمنها: ما يكون مقوما لذات المشروط، بحيث يكون الفاقد للشرط مباينا بالمرة لواجد الشرط، و المصداق الواضح لذلك ما كان مثل الناطقية للحيوان، فإذا تعذر الحيوان الناطق، كان الحيوان غير الناطق مغايرا لمتعلق الحكم عرفا.

و منها: ما لا يكون مقوّما لذات المشروط عرفا، بل يرى انه من حالاته و زوائده و كمالاته، نظير الصلاة مع الاستقبال، فان الصلاة بدون الاستقبال لا تكون مغايرة عرفا للصلاة معه، بل يرى ان الصلاة بدونه صلاة ناقصة و الصلاة معه صلاة و زيادة.

و الإشكال المزبور انما يتم في النحو الأول من الشروط لا النحو الثاني، إذ يقال: ان الصلاة المتعذر فيها الاستقبال، كان لها مقتض للثبوت لو لا التعذر، و يشهد لذلك صدق السقوط عرفا في مثل ذلك بلا إشكال أصلا في الموارد العرفية كما لا يخفى على من لاحظها.

التنبيه الثاني

: قد عرفت ان موضوع الكلام في الأصل العملي ما إذا لم يكن الدليل الجزئية إطلاق و لم يكن لدليل المأمور به إطلاق، بل كان كلا الدليلين

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 304

مجملين.

و لا يخفى انه مع تمامية قاعدة الميسور لا

مجال للأصل العملي المتقدم.

و هذا لا إشكال فيه.

انما الإشكال فيما إذا كان لدليل الجزئية إطلاق يقتضي ثبوتها في حالتي التمكن و التعذر، نظير قوله: «لا صلاة الا بفاتحة الكتاب»، فهل يتأتى في مثله الالتزام بقاعدة الميسور أو لا؟.

و منشأ الإشكال هو وجود التنافي بين دليل الجزئية و القاعدة، لأن مقتضى دليل الجزئية المطلقة هو سقوط الأمر عند التعذر، و مقتضى القاعدة ثبوت الأمر بالباقي عند التعذر.

و قد يتخيل حكومة القاعدة على دليل الجزئية. ببيان: ان القاعدة ناظرة إلى دليل الجزئية و تفيد تقييدها بحال التمكن، فتكون حاكمة على أدلة الجزئية و مقدمة عليها. و لكن هذا ممنوع [1]، فان تفرع قاعدة الميسور على ثبوت الأمر بالمركب ذي الاجزاء مسلم لا يقبل الإنكار.

و هذا لا يلازم سوى انها متفرعة عن الدليل الدال على الأمر بالمركب في الجملة، فتفيد عدم سقوطه بتعذر بعض اجزائه، فهي حاكمة عليه.

لكن دليل الجزئية المطلقة- مثل لا صلاة إلا بطهور- أيضا حاكم على دليل الأمر بالصلاة، و يفيد سقوطه بتعذر الطهور، و لا حكومة لقاعدة الميسور عليه لعدم تعرضها بمدلولها إليه و عدم تفرعها عليه، بل هما متعارضان بلحاظ المدلول الالتزامي لكل منهما و منافاته للمدلول المطابقي للآخر، فدليل الجزئية يثبت الجزئية المطلقة و لازمه سقوط الأمر بالمركب عند تعذره. و قاعدة الميسور

______________________________

[1] ذكر السيد الأستاذ دام ظله في مجلس البحث وجها آخر للمنع لكنه صار محلا للإشكال و الرد و البدل، و بعد المذاكرات المتعددة اختار هذا الوجه و ان لم يظهر منه العدول عن ذلك الوجه لكنه لا يبعد ذلك و لأجل ذلك لم نذكره هاهنا. (منه عفي عنه).

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 305

تثبت عدم السقوط عند

التعذر و لازمه الجزئية المقيدة. بل يمكن ان يقال: انهما متعارضان بلحاظ مدلولهما المطابقي في مثل: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أو بطهور»، إذ المدلول المطابقي لهذا الدليل هو سقوط الأمر و عدم ثبوته بدون الفاتحة، و هو ينافي مدلول القاعدة رأسا.

و بالجملة: هما متعارضان بلا حكومة لأحدهما على الآخر لعدم تفرع أحدهما عن الآخر فلاحظ و لا تغفل.

ثم ان الشيخ رحمه اللّه بعد تمامية القاعدة تعرض إلى ذكر فرعين من فروع قاعدة الميسور «1»:

الفرع الأول: ما لو دار الأمر بين ترك الجزء و ترك الشرط، فهل يتعين ترك الشرط أو يتخير بينهما؟.

و الّذي يظهر من الشيخ فرض المورد من موارد القاعدة و لزوم الإتيان بالباقي، و انما يدور الأمر بين ترك الجزء أو ترك الشرط.

و لكن يخطر في الذهن إشكال في ذلك سواء في ذلك دوران الأمر بين ترك الجزء أو الشرط، أو دورانه بين ترك أحد جزءين.

و ذلك، لأن كل جزء جزء مقدور في نفسه فلا يقال انه معسور، و ما هو المعسور- و هو الجمع بينهما- ليس متعلق الحكم الشرعي، و ظاهر النص إرادة المعسور مما كان متعلقا للحكم الشرعي، فرواية: «الميسور لا يسقط بالمعسور» لا تشمل هذا المورد، و مثلها رواية: «إذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم»، لأن كلا من الجزءين في حد نفسه متعلق الاستطاعة.

نعم، رواية: «ما لا يدرك كله» تشمل هذا الفرض.

و كيف كان، فمع الغض عن هذا الإشكال الصناعي، فيرد على الشيخ

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 296- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 306

رحمه اللّه:

أولا: ان المورد ليس من موارد التزاحم كي تلاحظ فيه الأهمية، بل من موارد التعارض لما تقدم من

ان موارد تزاحم الواجبات الضمنية خارجة عن أحكام التزاحم، بل هي من موارد التعارض. فراجع.

و ثانيا: انه لو فرض ان المورد من موارد التزاحم، فالالتزام بتقديم الجزء على الشرط بقول مطلق ليس كما ينبغي، إذ قد يكون من الشروط ما هو أهم بنظر الشارع و العرف من بعض الاجزاء، فالكلية ممنوعة.

و اما ما ذكره من التعليل العرفي من ان فوات الوصف أولى من فوات الموصوف، فهو أجنبي عما نحن فيه، لأنه يرتبط بما إذا دار الأمر بين الشرط و المركب بتمامه، و العمل العرفي غالبا على تقديم ترك الشرط لأنه مفقود على كل حال، و ذلك نظير دوران الأمر بين تحصيل دار مبنية بالإسمنت لا الطابوق و بين عدم الدار بالمرة، فان البناء العرفي على القناعة بفاقد الشرط، و ما نحن فيه دوران الأمر بين ترك الشرط و ترك الجزء، نظير ما لو دار الأمر بين دار من الإسمنت ذات ست غرف و دار من الطابوق ذات خمس غرف. و لم يثبت من العرف تقديم الأولى على الثانية. فانتبه.

الفرع الثاني: ما لو كان للكل بدل اضطراري كالتيمم في باب الوضوء، فهل يقدّم على العمل الناقص، أو يقدّم الناقص عليه؟.

ذكر الشيخ في وجه الأول: ان مقتضى البدلية كونه بدلا عن التام في جميع آثاره، فيقدّم على الناقص كما يقدّم التام عليه.

و ذكر في وجه الثاني: ان البدل انما يجب عند تعذر التام، و الناقص بمقتضى قاعدة الميسور تام لانتفاء جزئية المفقود فيقدّم على البدل.

أقول: في كلا الوجهين ما لا يخفى، فان دليل التيمم ليس فيه لعنوان البدلية عين و لا أثر كي يتمسك بإطلاقه بلحاظه في ترتيب جميع الآثار. كما ان

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5،

ص: 307

قاعدة الميسور لا تفيد ان الميسور تام كالواجد، بل غاية ما تفيد تعلق الأمر به لا غير.

فالتحقيق ان يقال: ان دليل التيمم ..

تارة: يكون مفاده تشريع التيمم عند تعذر المرتبة العليا التامة للوضوء.

و أخرى: يكون مفاده تشريع التيمم عند تعذر الوضوء بجميع مراتبه المأمور بها. و بعبارة أخرى: يفيد مشروعية التيمم عند تعذر الوضوء المشروع، و ما هو الوظيفة الفعلية للمكلف لو لا التعذر.

فعلى الثاني: تكون قاعدة الميسور حاكمة على دليل التيمم، لأنها تتكفل تشريع الوضوء و توظيف المكلف به فعلا، فيرتفع موضوع مشروعية التيمم.

و على الأول: يتصادم دليل التيمم مع قاعدة الميسور، إذ دليل التيمم يثبت مشروعية التيمم عند تعذر الوضوء التام، و قاعدة الميسور تثبت مشروعية الوضوء الناقص، و بما انه يعلم بعدم مشروعية الجمع بينهما، إذ الطهارة إذا حصلت بأحدهما لا مجال لتحصيلها بالآخر يتحقق التصادم.

و علاج التعارض هو الالتزام بالتخيير، و ذلك لأن منشأ التصادم هو ظهور إطلاق الدليلين في مشروعية كل منهما بنحو التعيين، و مقتضى تعارض الإطلاقين هو تساقطهما، فيرتفع اليد عن ظهور كل من الدليلين في التعيين، و ينحفظ على ظهور كل منهما في أصل المشروعية و الوجوب. و نتيجة ذلك هو التخيير بينهما.

فتدبر. هذا تمام الكلام في قاعدة الميسور بشئونها.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 381

«قاعدة نفي الضرر»

اشارة

لا يخفى انه لا أهمية للبحث عن كون هذه القاعدة أصولية أو فقهية، فانه ليس بذي جدوى.

و إنما المهم تحقيق الحال في ثبوت القاعدة و حدودها و قيودها. و لا بد من سرد

الاخبار التي تكفلت نفي الضرر بنحو العموم

اشارة

، ثم البحث عن المستفاد من متونها.

و هي متعددة ..

فمنها: رواية عبد اللّه بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «ان سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، و كان منزل الأنصاري بباب البستان، فكان يمر إلى نخلته و لا يستأذن، فكلّمه الأنصاري ان يستأذن إذا جاء فأبى سمرة فلما تأبى جاء الأنصاري إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فشكا إليه و خبره الخبر. فأرسل إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خبره بقول الأنصاري و ما شكا، و قال: إذا أردت الدخول فاستأذن. فأبى. فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء اللّٰه، فأبى ان يبيع.

فقال: لك بها عذق يمد لك في الجنة. فأبى ان يقبل. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للأنصاري: اذهب فاقلعها و ارم بها إليه فانه لا ضرر و لا

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 382

ضرار» «1».

و منها: رواية عبد اللّه بن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام نحو ما تقدم، إلا انه قال: «فقال له رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: انك رجل مضار و لا ضرر و لا ضرار على مؤمن. ثم قال: ثم أمر بها فقلعت و رمي بها إليه. فقال له رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: انطلق فاغرسها حيث شئت»

«2».

و منها: رواية أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر عليه السلام نحو ما تقدم، و لكن في آخرها قال صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: «ما أراك يا سمرة الا رجلا مضارا، اذهب يا فلان فاقلعها- فاقطعها- و اضرب بها وجهه» «3».

و منها: رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «قضى رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم بين أهل المدينة في مشارب النخل انه لا يمنع نفع الشي ء، و قضى بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلأ، فقال: لا ضرر و لا ضرار» «4».

و في الكافي، بدل قوله: «فقال» قوله: «و قال لا ضرر ...».

و منها: رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «قضى رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين و المساكن و قال: لا ضرر و لا ضرار. و قال: إذا أرفت الأرف و حدث الحدود فلا شفعة» «5».

______________________________

(1) الكافي 5- 292، حديث: 2.

التهذيب 7- 146، حديث: 36. من لا يحضره الفقيه 3- 233، حديث: 3859.

(2) الكافي 5- 294، حديث: 8.

(3) من لا يحضره الفقيه 3- 103، حديث: 3423.

(4) الكافي 5- 263، حديث: 6.

(5) الكافي 5- 280، حديث: 4.

التهذيب 7- 164، حديث: 4. من لا يحضره الفقيه 3- 76، حديث: 3368.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 383

و منها: رواية الصدوق في الفقيه في مقام بيان ان المسلم يرث من الكافر و الكافر لا يرث من المسلم قال: «و ان اللّٰه عز و جل انما حرّم على الكفار الميراث عقوبة لهم لكفرهم، كما حرم على القاتل عقوبة لقتله، فاما المسلم

فلأي جرم و عقوبة يحرم الميراث؟! و كيف صار الإسلام يزيده شرا؟! مع قول النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: الإسلام يزيد و لا ينقص، و مع قوله عليه السلام: لا ضرر و لا إضرار في الإسلام. فالإسلام يزيد المسلم خيرا و لا يزيده شرا «1». و مع قوله عليه السلام: الإسلام يعلو و لا يعلى عليه ...» «2».

و منها: ما حكي عن المستدرك عن دعائم الإسلام عن أبي عبد اللّٰه (عليه السلام): «انه سئل عن جدار الرّجل و هو سترة بينه و بين جاره سقط عنه فامتنع من بنائه، قال: ليس يجبر على ذلك إلا ان يكون وجب ذلك لصاحب الدار الأخرى بحق أو بشرط في أصل الملك، و لكن يقال لصاحب المنزل اشتر على نفسك في حقك إن شئت. قيل له: فان كان الجدار لم يسقط و لكنه هدمه أو أراد هدمه إضرارا بجاره لغير حاجة منه إلى هدمه؟. قال: لا يترك، و ذلك ان رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم قال: لا ضرر و لا ضرار، و ان هدمه كلف أن يبنيه» «3».

و هذه جملة من النصوص الواردة في هذا المقام.

و يقع الكلام فيها تارة من ناحية السند و أخرى من ناحية المتن.

أما ناحية السند: فالظاهر انه لا يحتاج إلى إتعاب النّفس لأن السند في بعض ما تقدم و إن لم يكن تاما، لكن يحصل من المجموع مما رواه الخاصة و العامة الوثوق بصدور هذا المضمون من الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم.

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه 4- 334، حديث: 5718.

(2) من لا يحضره الفقيه 4- 334، حديث: 5719.

(3) دعائم الإسلام 2- 504، حديث: 1805.

القواعد

الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 384

و اما ناحية المتن فالكلام فيها من جهات عديدة:

الجهة الأولى

: ان كثيرا من النصوص المتقدمة المروية بطرقنا و مثلها المروي بطرق العامة ورد فيها قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: «لا ضرر و لا ضرار» من دون تقييد بكلمة: «في الإسلام» و إنما ورد التقييد بذلك في رواية الصدوق خاصة، و نقل أيضا عن نهاية ابن الأثير من كتب العامة «1».

فيقع الكلام في انه هل يمكن البناء على ورود هذا القيد أم لا؟.

و لا يخفى ان للبناء على ثبوته و عدمه أثرا عمليا في ما يستفاد من الهيئة التركيبية لنفي الضرر.

فقد جعله الشيخ من القرائن على ما استفاده من تكفل الرواية نفى الحكم المستلزم للضرر من باب نفي السبب بلسان نفي المسبب، و من مبعدات احتمال إرادة النهي عن الضرر من نفي الضرر «2».

و كيف كان، فالحق انه لا يمكننا البناء على ثبوت هذا القيد و صدوره من الرسول الأعظم صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم.

و لا يخفى أن محور الكلام هو رواية الصدوق دون مرسلة ابن الأثير في النهاية، إذ لا يحتمل ان يستند إلى رواية النهاية في البناء على صدور هذا القيد، بعد ان كانت مرسلة لعامي.

و الّذي نستند إليه في التوقف عن العمل برواية الصدوق (رحمه اللّٰه) هو وجهان:

الوجه الأول: الوثوق أو قوة احتمال كون كلمة: «في الإسلام» زيادة من الصدوق لا قولا للنبي صلى اللّٰه عليه و آله.

______________________________

(1) ابن الأثير. النهاية 3- 81- الطبعة الأولى.

(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 314- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 385

و الوجه الثاني: عدم تمامية السند.

أما الوجه الأول: فلنا عليه قرائن و مؤيدات:

أولا: ان النقل ..

تارة يكون باللفظ مع قطع

النّظر عن معناه، بل قد لا يفهم الناقل معنى اللفظ و انما ينقله بنصه لغرض هناك.

و أخرى: يكون بالمضمون و المعنى. فلا يلحظ فيه نقل النص اللفظي للمنقول عنه، بل نقل ما يفهمه الناقل من كلام المنقول عنه.

و من الواضح ان الصدوق (رحمه اللّٰه) في روايته ليس في مقام النص اللفظي لكلام النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم، بل في مقام حكاية المضمون و المعنى، لأنه في مقام الاستدلال على إرث المسلم من الكافر، و هو يرتبط بمفاد قول النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم لا بنفس اللفظ.

و إذا اتضحت هذه الجهة نضم إليها جهة أخرى، و هي: ان صاحب القانون و التشريع إذا شرع حكما بإنشاء معين صح ان ينقل عنه تشريع ذلك الحكم في القانون و لو لم يكن لفظ- في القانون- واردا عند تشريعه.

فيصح ان يقال: ان اللّٰه حرّم الغيبة في الإسلام مع ان إنشاء تحريم الغيبة لم يكن مشتملا على كلمة: «في الإسلام».

كما يصح ان يقال: ان الحكومة شرعت السجن في العراق، و لو لم يكن الإنشاء مشتملا على كلمة: «في العراق».

و يصح أن يقال: ان زيدا يقول لا أرضى باللعب في بيتي، و الحال انه لم ينه الا عن اللعب بلا ان يقول: «في بيتي»، و لكن كان ظاهر حاله باعتبار سلطنته على بيته كون تحريمه بلحاظ بيته.

و لا يعد مثل هذا خيانة في النقل، بل هو أمر يجري عليه الكل بعد ان كان النقل بالمعنى لا بنص اللفظ. و الناقل للمعنى لا يتقيد بخصوص اللفظ

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 386

و حدوده، بل له ان ينقل المعنى بما يستفيده من ملاحظة الحال.

و بما

أن الشارع بما هو شارع انما ينفي الضرر بلحاظ تشريعه و دينه، فنسبة نفي الضرر في الإسلام إلى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم كما تتلاءم مع نطقه بها كذلك تتلاءم مع عدم نطقه بها بملاحظة حاله و شأنه.

فبملاحظة هاتين الجهتين لا يثبت ظهور لنقل الصدوق (رحمه اللّٰه) في انه يريد بيان ان كلمة: «في الإسلام» جزء قول النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم، بل يمكن ان يكون نقلا بحسب ملاحظته ظاهر حال الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و شأنه.

و ثانيا: ان ارتكاز الأشباه و النّظائر قد يوقع في الغفلة، و بما ان لهذه الجملة أشباها كثيرة مثل «لا رهبانية في الإسلام»، و: «لا مناجشة في الإسلام»، و: «لا أخصاء في الإسلام»، فقد يكون ذلك منشئا لاشتباه الصدوق (رحمه اللّٰه) في رواية: «لا ضرر» لأنّها شبيهة بتلك النصوص.

و أصالة عدم الغفلة لا يبنى عليها إذا كان احتمال الغفلة معتدا به عرفا كما في المورد، فيكون نظير مورد معلومية كثرة الغفلة من الناقل، فانه لا يبني على أصالة عدم الغفلة في نقله.

و ثالثا: ان كلمة: «في الإسلام» لو كانت جزء من كلام الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم، فلا يصح إلا بتقدير، إذ الظرفية لا تصح بلحاظ نفس الضرر إذ لا معنى له كما لا يخفى. كما لا تصح بلحاظ نفي الضرر، لأن النفي هاهنا مفاد الحرف و هو لا يصلح لأن يكون طرفا للربط، فلا بد من تقدير. بخلاف ما لو كانت راجعة إلى كلام الصدوق، بحيث يكون: «في الإسلام» مرتبطا ب: «قوله» فيكون المراد: «و قوله في الإسلام لا ضرر ...» و يراد من القول

التشريع و الجعل.

و رابعا: ان الظاهر انّ هذه الجملة- أعني: «لا ضرر و لا ضرار»- غير مستقلة بالبيان، بل هي من ذيول قصة سمرة أو غيرها، و لا ظهور لكلام الصدوق في انها

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 387

واردة ابتداء، لأنه ليس في مقام نقل الرواية، بل في مقام الاستدلال بهذه الفقرة فلا ينافي كونها من ذيول واقعة معينة كواقعة سمرة.

و لا يخفى ان رواية سمرة بجميع صورها لم ترو بهذا النحو- أعني:

بإضافة قيد: «في الإسلام»-، و هكذا غير رواية سمرة المذيّلة بنفي الضرر.

و عليه، فيدور الأمر بين احتمال النقص فيها و احتمال الزيادة في رواية الصدوق.

و الثابت في محله و ان كان تقديم أصالة عدم الزيادة مع التعارض، لقوة احتمال الغفلة الموجبة للنقص من الغفلة الموجبة للزيادة.

إلا ان تظافر النقل مع النقيصة، مع قوة احتمال الزيادة بملاحظة الوجوه الثلاثة المتقدمة يبعد جريان أصالة عدم الزيادة.

و الحاصل: انه بملاحظة هذه الوجوه لا يبقى مجال للبناء على ثبوت هذا القيد في كلام الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و عدم كونه من كلام الصدوق، لعدم الاطمئنان بذلك و عدم ما يصحح البناء عليه تعبدا.

و أما الوجه الثاني: فان رواية الصدوق (رحمه اللّٰه) و ان لم تكن مرسلة كأن يقول: «روي عن النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم ...»، لأنه أسند القول إلى الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم بصورة باتة جزمية، و هكذا يكشف عن بنائه على صدور هذا الكلام من النبي صلى اللّٰه عليه و آله.

إلا ان هذا لا ينفع في صحة البناء على حكايته، و ذلك لأنه لم يظهر من حكايته انه قد اعتمد على رواية

تامة السند كي يكون ذلك منه شهادة على صحة السند، إذ يمكن ان تكون الرواية الواصلة إليه غير تامة السند لكنه اطمئن بصدورها اعتمادا على قرائن قد لا توجب الوثوق لنا لو عثرنا عليها. فلا يمكن الاعتماد على حكايته. فالتفت.

الجهة الثانية

: في إمكان البناء على ثبوت قيد: «على مؤمن» بعد قوله:

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 388

«لا ضرر و لا ضرار» و عدم إمكانه.

و لا يخفى عليك ان جميع الروايات التي نقلناها خالية عن هذا القيد ما عدا رواية ابن مسكان عن زرارة الواردة في قصة سمرة بن جندب.

و لكنها لا تصلح للاستناد إليها، فانها مضافا إلى ورود الوجه الرابع الّذي ذكرناه بالنسبة إلى رواية الصدوق المتكفلة لإضافة قيد: «في الإسلام». ضعيفة السند، لأن بعض أفراد سلسلة السند مجهول للتعبير عنه ب: «بعض أصحابنا»، فلا تكون حجة. و من الغريب ان الشيخ (رحمه اللّٰه) في الرسائل ذكر هذه الرواية و جعلها من أصح ما في الباب سندا «1». فانتبه.

و الّذي يتحصل لدينا من مجموع ما تقدم: ان الشي ء الثابت من النصوص هو خصوص جملة: «لا ضرر و لا ضرار» بلا زيادة كلمة: «في الإسلام» أو: «على مؤمن».

الجهة الثالثة

: في ان جملة: «لا ضرر و لا ضرار» هل وردت مستقلة كما وردت جزء، أو انها لم ترد إلا جزء كلام آخر؟.

و الحق: انه لا يمكن الالتزام بورودها مستقلة لوجهين:

الأول: انه لا طريق إلى إثبات ذلك لا من طرق العامة و لا من طرق الخاصة.

أما العامة، فانهم و إن أوردها في أحاديثهم مستقلة فقط، فلم يرووا سوى هذه الجملة فقط، لكنا نعلم بأنهم حذفوا مواردها للقطع بورودها في بعض الموارد الخاصة، و منها واقعة سمرة بملاحظة نصوصنا، فانه يكشف عن إغفالهم لمواردها سهوا أو عمدا.

و عليه، فلا يمكن ان يعتمد على نقلها مستقلة في إثبات انها وردت كذلك.

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 314- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 389

نعم، لو رويت

بطرقهم بنحوين مستقلة و غير مستقلة، لأمكن دعوى ظهور ذلك في الاستقلال.

و أما الخاصة، فلم ترد في الروايات مستقلة إلا في رواية الصدوق و رواية دعائم الإسلام المتقدمتين.

و لكن لا ظهور لرواية الدعائم في كونها مستقلة الورود، لأنه ليس في مقام الحكاية ابتداء، بل في مقام الاستدلال على الحكم الّذي بيّنه، فمن الممكن ان يكون نظره عليه السلام إلى ورود هذه الفقرة في رواية سمرة مثلا، فذكرها شاهدا.

و أما رواية الصدوق (رحمه اللّٰه)، فقد عرفت انه في مقام الاستدلال على فتواه، فلا ظهور لحكايته في ورودها مستقلة كما لا يخفى.

الثاني: انه لا يظهر لهذه الجملة بنفسها و ابتداء معنى محصل من دون سابق و لاحق كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام. نعم لو كانت ملحقة بقيد: «في الإسلام» أو: «على مؤمن» لكانت ذات معنى، إلا انك عرفت عدم ثبوت أحد هذين القيدين. فتدبر.

الجهة الرابعة

: في تطبيق قاعدة: «لا ضرر و لا ضرار» في مورد الحكم بالشفعة و مورد النهي عن المنع عن فضل الماء ليمنع فضل كلأ، في روايتي عقبة بن خالد.

فقد وقع البحث فيه من ناحيتين:

الناحية الأولى: في صحة تطبيق نفي الضرر و الضرار في هذين الموردين.

و عمدة الإشكال في صحة ذلك في مورد الحكم بالشفعة وجهان:

أحدهما: عدم تحقق الضرر فعلا في بيع حصة الشريك لغير شريكه. نعم قد يتحقق الضرر في المستقبل، كما إذا كان الشريك الجديد سي ء الخلق و غير ذلك، فالبيع يكون مقدمة إعدادية للضرر التي قد يترتب عليها الضرر، و قد لا

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 390

يترتب و في مثله لا يصدق الضرر فعلا كي يصح نفيه بالقاعدة، فهل يقال لبيع السكين أو إمضائه انه ضرري

لأنه مقدمة إعدادية للإضرار بالغير بالجرح؟!.

و الآخر: ان نفي الضرر لا يتكفل على تقدير انطباقه سوى نفي اللزوم و إثبات الجواز الحكمي من دون أن يثبت حقا للشريك على حد سائر الحقوق، مع ان الثابت في مورد الشفعة هو الجواز الحقي، فان الشفعة تعد من الحقوق.

و اما الإشكال في صحة تطبيق نفي الضرر على مورد منع فضل الماء، فهو وجهان أيضا:

أحدهما: ان منع المالك فضل مائه عن الغير لا يعدّ إضرارا به، بل هو عدم إيصال للنفع إليه، فلا ربط له بنفي الضرر.

و الآخر: ان الملتزم به في هذا المورد هو كراهة المنع لا حرمته.

و من الواضح ان مقتضى نفي الضرر هاهنا هو حرمة منع الماء، إذ الضرر- على تقديره- انما يترتب على الجواز بالمعنى الأعم لا خصوص الإباحة.

و لو ادعى ان مفاد نفي الضرر تحريم الضرر. فالإشكال من هذه الجهة أوضح.

و بالجملة: هذان الموردان لا يصلحان لتطبيق نفي الضرر فيهما بأي معنى فرض له من المعاني التي سيأتي البحث فيها إن شاء اللّٰه تعالى.

و من هنا التجأ البعض إلى دعوى: ان ذكر لا ضرر في كلتا الروايتين من باب الجمع في الرواية لا في المروي «1».

كما التجأ المحقق النائيني إلى حمل تطبيق نفي الضرر في الموردين من باب الحكمة لا العلة «2».

______________________________

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور، مصباح الأصول 1- 521- الطبعة الأولى.

(2) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر- 195- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 391

و التحقيق: إنا لا نرى إشكالا في صحة تطبيق نفي الضرر في هذين الموردين بنحو العلية، فلا تصل النوبة إلى ما أشرنا إليه بيان ذلك:

أما في مورد الشفعة ..

فالوجه الأول من الإشكال يندفع: بان بيع

الحصة من شخص آخر يكون معرضا لترتب الضرر على مشاركته للشريك الأول، للجهل بحاله و خصوصياته و ما يترتب على اشتراكه في الملك و التصرف. مثل هذا البيع يوجب نقصا في مالية حصة الشريك الأول بلا إشكال، و هو ضرر واضح. فالضرر مترتب مباشرة على البيع بملاحظة ان المعرضية للابتلاء بشخص آخر مجهول الحال يستلزم نقص المالية و هو ضرر فعلي، و ليس بملاحظة ترتب الضرر الخارجي، كي يقال ان نسبة البيع إليه نسبة المعدّ لا السبب.

فالإشكال نشأ من ملاحظة الضرر الصادر من الشريك نفسه، و الغفلة عن الضرر الحاصل من الشركة نفسها، فانتبه.

و هذا البيان و ان تأتى نظيره في موارد القسمة بلحاظ ان جوار مجهول الحال أيضا يوجب نقص المالية، لكن بعد قيام الدليل الخاصّ على عدم الشفعة فيها، و لو بملاحظة اختلاف مرتبة الضرر فيها عن مرتبته في مورد الشركة، لتوقف تصرف الشريك الأول على إذن الشريك الجديد، بخلاف مورد القسمة.

لا يبقى مجال لدعوى تأتي نفي الضرر في موارد القسمة.

و أما الوجه الثاني، فيندفع: بان ثبوت الحق في مورد الشفعة ليس بدليل نفي الضرر، بل هو بواسطة دليل منفصل بملاك آخر و دليل نفي الضرر لم يتكفل سوى إثبات الجواز، و لا ينافيه ان يقوم دليل آخر على ثبوت الحق. و لا دليل على ان السائل استظهر من كلام الإمام عليه السلام ثبوت الحق بلا ضرر.

و بالجملة: لا ظهور للتعليل في كونه تعليلا للحق، بل هو تعليل للجواز

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 392

و كونه حقا ثابتا بملاك آخر و بدليل آخر.

و أما في مورد منع فضل الماء ..

فالوجه الأول من الإشكال يندفع: بان الرواية واردة في مورد يكون للشخص

ماء و يكون في جنبه كلأ للرعي، فإذا رعت أغنام الغير في الكلاء عطشت فاحتاجت إلى الماء، فإذا منع المالك ماءه عنها كان ذلك سببا لعدم رعيها في الكلام لأنها تموت عطشا، فيضطر مالك الغنم إلى ترك هذا المرعى إلى مرعى آخر.

و هذا أوجه ما قيل في معنى الرواية.

و عليه، فمنع الماء يكون سببا لمنع الانتفاع بالمرعى، فيكون سببا للضرر، لأن عدم النّفع و ان لم يعدّ ضررا بقول مطلق، لكنه في مورد قيام المقتضي للانتفاع يكون المنع عنه معدودا عرفا من الإضرار. إذن فمورد الرواية هو ما يكون المنع من فضل الماء موجبا للضرر. فيصح تطبيق نفي الضرر عليه.

و أما الوجه الثاني، فيندفع: بأنه لا مانع من الالتزام بالتحريم كما نسب إلى جمع من المحققين، و ليس فيه مخالفة لضرورة فقهية.

و الّذي يتحصل انه لا إشكال في تطبيق لا ضرر في كلا الموردين. و لو لا ما ذكرناه لأشكل الأمر على ما سلكه المحقق النائيني في الالتزام بان الملحوظ في تطبيق نفي الضرر هو بيان الحكمة لا العلة، فان مقتضاه التوقف في ظهور نفي الضرر في رواية سمرة في العلية، إذ لا محذور في أخذ الضرر بنحو الحكمة في مورد و بنحو العلة في مورد آخر. لكن بعد وحدة التعبير في جميع النصوص يبعد ان يختلف المراد منه، بل الظاهر ان المراد به واحد، بان يكون علة في الجميع، أو حكمة في الجميع. فتدبر.

الناحية الثانية: في ان حكاية قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: «لا ضرر و لا ضرار» في روايتي عقبة المزبورتين في موردي الشفعة و منع فضل الماء، هل هو

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 393

من باب الجمع

في الرواية، بمعنى انه صدر في غير هذين الموردين و منفصلا عن قضائه فيهما، و لكن جمع الراوي بين روايته و رواية قضائه في موردي الشفعة و منع فضل الماء؟، أو انه من الجمع في المروي، بمعنى انه جزء من قضائه في مورد الشفعة و من قضائه في مورد منع فضل الماء؟. و لا يخفى ان البحث في الناحية الأولى متفرع على الثاني، و لا مجال له على الأول الّذي قد أصر عليه المحقق شيخ الشريعة الأصفهاني (رحمه اللّٰه) في رسالته الصغيرة، بتقريب: ان عبادة بن الصامت نقل أقضية النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم و هي كثيرة، و نقل من جملتها نفي الضرر و الضرار، و الشفعة، و النهي عن منع فضل الماء ليمنع فضل كلأ. و نقله ظاهر في انفصال قضائه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم بنفي الضرر عن قضائه بالشفعة و عدم منع فضل الماء.

و بملاحظة التشابه بين نقل عبادة و نقل عقبة بعض تلك الأقضية- و منها ما نحن فيه- في الألفاظ، بل ربما تكون بلفظ واحد، يحصل الاطمئنان بان ما يروم نقله عقبة هو ما يروم نقله عبادة، و انهما ينقلان وقائع واحدة، و بملاحظة وثاقة عبادة و تثبته في النقل يحصل الاطمئنان بان عقبة في اختلافه مع عبادة في تذييله قضائه صلى اللّٰه عليه و آله في موردي الشفعة و منع فضل الماء كان قد جمع بين الرواية لا المروي «1».

و لكن ما أفاده (قدس سره) لا يمكن الالتزام به، فان ظهور رواية عقبة في كلا الموردين في كون قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: «لا ضرر و لا ضرار» جزء من قضائه

بالشفعة أو بعدم منع فضل الماء، و انه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم في مقام تعليل قضائه بهما بنفي الضرر و الضرار، ببيان كبرى كلية مما لا يكاد ينكر و لا يخفى، خصوصا روايته الواردة في الشفعة، لتعقيبه نقل لا ضرر ببيان حكم

______________________________

(1) الأصفهاني العلامة شيخ الشريعة، قاعدة لا ضرر- 20- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 394

ما إذا وقعت القسمة و انه لا شفعة بعدها. فان ذلك ظاهر غاية الظهور انه لم ينتقل في حكايته قول النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: «لا ضرر و لا ضرار» إلى بيان قضاء آخر صدر منه صلى اللّٰه عليه و آله في واقعة أخرى، بل هو في مقام بيان ما صدر من الأحكام في مورد بيع الشريك.

و بالجملة: رواية عقبة بمقتضى ظهورها تأبى عن حملها على الجمع في الرواية.

و مجرد رواية عبادة قضاؤه صلى اللّٰه عليه و آله في هذين الموردين بلا تذييل بنفي الضرر و الضرار، لا يصلح ان يكون قرينة على رفع اليد عن هذا الظهور بل الصراحة.

مع ان وثاقة عبادة لا تدعو إلى ذلك، بعد ان كانت سلسلة السند إليه ليست بتلك المرتبة من الوثاقة.

مضافا إلى العلم بان عبادة لم يكن بصدد نقل موارد ورود نفي الضرر، بل بصدد نقل الكبرى الكلية لا غير بقطعها عن موردها، إذ من الواضح ورود نفي الضرر في واقعة سمرة و لم ينقلها عبادة أصلا. فلا يكون نقله: «لا ضرر و لا ضرار» منفصلا عن القضاء بالشفعة دليلا على عدم وروده في ذلك المورد.

خصوصا بملاحظة ما تقدم منا في الجهة الثالثة من عدم تصور معنى محصل لهذه الجملة إذا

وردت مستقلا. فراجع.

و لعل منشأ الالتزام بان المورد من موارد الجمع في الرواية هو الإشكال الّذي عرفته من الناحية الأولى- كما صرح به بعض-. لكن عرفت اندفاعه بحذافيره فلا مقتضى للتكلف، و اللّٰه سبحانه العالم.

الجهة الخامسة

: في معنى مفردات هذه الفقرة، أعني: «لا ضرر و لا ضرار».

أما لفظ: «الضرر»، فلا شبهة في انه يصدق على مطلق النقص في المال و العرض و البدن.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 395

و هل يصدق على عدم النّفع؟. لا شبهة في عدم صدقه على عدم النّفع إذا لم يكن في معرض الوصول بتمامية مقتضية.

إنما الإشكال في صدقه على عدم النّفع إذا كان في معرض الوصول، كما لو كان مقتضى النّفع و شرطه تاما فمنع من تحققه.

و لا يخفى ان هذا النحو يتصور على نحوين:

أحدهما: ان يكون النّفع في معرض الوصول إلى هذا الشخص كزيد- مثلا-، و لكن لا بخصوصيته و بما أنه زيد، بل بما انه فرد من افراد العنوان الكلي المنطبق عليه الّذي يصل إليه النّفع عادة. غاية الأمر ان العنوان انحصر فرده بزيد. مثلا، إذا كان في بلد النحف خبازا واحدا، فعند حلول موسم الزيارة يكون مقدار بيعه للخبز كثيرا جدا، و لكن شراء الزوار منه لا لخصوصيته بل بما انه خبّاز، و انما يقصدون الشراء منه خاصة لانحصار الكلي به. و الأمثلة على ذلك كثيرة.

و الآخر: ان يكون النّفع في معرض الوصول للشخص الخاصّ بخصوصيته.

كما إذا كان الناس يشاورون زيدا و يتركون غيره من مماثليه من جهة حسن خلقه و مساهلته في باب المعاملة.

و لا يخفى ان العرف يطلق لفظ الضرر على عدم النّفع في كلا هذين الموردين. ففي المثال الأول لو فتح شخص آخر

دكانا لبيع الخبز، و انه قد ضرني، كما يقال في الفارسية: «ضرر به من زده».

و هكذا في المثال الثاني لو صرف شخص آخر الناس عن زيد إليه بأفضل من أخلاق زيد، يقول زيد انه تضرر بذلك و ان فلانا ضرّه.

و بالجملة: صدق الضرر عرفا في هذه الموارد لا ينبغي الإشكال فيه. إلا

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 396

ان الالتزام بانطباق قاعدة نفي الضرر في الأول- بأي معنى من المعاني المفروضة لها من النهي أو نفي الحكم أو غيرهما- مما لا يقول به أحد، و يستلزم تأسيس فقه جديد.

فهل يلتزم أحد بحرمة فتح الآخر دكانا يوجب تقليل الشراء من الأول؟. فهو و ان كان ضررا موضوعا، لكن ليس له حكمه الّذي نبحث عنه في قاعدة نفي الضرر. و أما الثاني: فهو مما لا يمكن الالتزام بانطباق القاعدة المبحوث عنها عليه بقول مطلق و ان أمكن الالتزام به في بعض الموارد، إذ لا أظن ان أحدا يلتزم بحرمة فتح دكان في قبال زيد و صرف الناس عن زيد و وجوههم إليه، أو بحرمة صرف المشتري من زيد لخصوصيته إلى عمرو.

نعم، في مثل ما لو كان ماء جار كان بمقتضى طبع جريانه يمرّ بدار زيد، يمكن الالتزام بحرمة تحويل مجراه عن دار زيد.

و مما ذكرناه في تحقيق معنى الضرر يظهر ان تقابله مع النّفس ليس بتقابل التضاد لصدقه على عدم النّفع. و ليس بتقابل العدم و الملكة لصدقه على النقص و هو أمر وجودي، بل هو أعم من النقص المضاد للنفع و من عدم النّفع في المورد الّذي فيه اقتضاء للنفع المقابل للنفع بتقابل العدم و الملكة.

و كيف كان فهذا ليس بمهم فيما نحن بصدده، و

انما المهم تحقيق معنى الضرر و تحديده و انه خصوص النقص أو أعم من عدم النّفع في موارد وجود المقتضي للنفع، و قد عرفت تحقيق ذلك.

و هذا أولى من صرف البحث إلى الكلام في صحة دعوى ان التقابل بينهما تقابل التضاد، كما هو ظاهر أهل اللغة «1». أو العدم و الملكة كما هو ظاهر صاحب الكفاية «2»، و عدم صحتها بعد فرض ان الضرر بمعنى النقص. لأنه بحث

______________________________

(1) الضرّ و الضرّ: ضدّ النّفع، اقرب الموارد و النهاية- الضرّ: ضدّ النّفع، الصحاح.

(2) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول- 381- طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 397

اصطلاحي صرف لا أهمية له فيما نحن فيه، بل كان ينبغي تحقيق معنى الضرر و حدوده كما عرفت.

و بذلك تظهر لك المسامحة في حاشية المحقق الأصفهاني. فراجع «1».

و أما لفظ: «الضرار»: فقد قيل في معناه: انه فعل الاثنين و انه الجزاء على الضرر. و لعل الوجه في ذلك ما اشتهر ان مصدر باب المفاعلة يدل على تحقق المبدأ من اثنين كالقتال و الضراب. و الضرار منها لأنه مصدر من المضارّة.

و لكن تصدى المحققون و المتتبعون «2» إلى إنكار هذا الأمر المشهور بسرد الشواهد الكثيرة من الكتاب و السنة و الاستعمالات العرفية مما لا يراد بها فعل الاثنين من المصدر. فراجع تعرف. و ذلك يكفي تشكيكا أو منعا لهذا القول.

هذا مضافا إلى انه لم يرد به ذلك في رواية سمرة قطعا، لأنه طبّق عنوان:

«المضار» على سمرة مع انه لم يتحقق الضرر من الأنصاري، بل كان سمرة منفردا به.

مع أن المنفي ان كان فعل الاثنين الحاصل في زمان واحد، فنفس نفى الضرر يتكفل نفيه فلا

يزيده نفي الضرار شيئا. و ان كان المنفي فعل الثاني الحاصل بعنوان الجزاء، فهو يتنافى مع مفاد قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ «3» فلا يمكن الالتزام به.

إذن فتحقيق صحة هذا القول في معنى الضرار و عدم صحته لا أهمية له فيما نحن فيه.

كما انه لا أهمية لتحقيق صحة ما أفاده بعض المحققين بعد ردّ هذا القول.

من: ان مصدر باب المفاعلة يدل على نفس المبدأ و لكن بضميمة ملاحظة تعديه

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2- 317- الطبعة الأولى.

(2) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2- 317- الطبعة الأولى.

(3) سورة البقرة، الآية: 194.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 398

إلى المفعول و تعلقه بالغير، فالضرار يدل على الضرر الملحوظ وقوعه على الغير، بخلاف الضرر، فانه يدل على نفس المبدأ بلا ملاحظة جهة تعدّيه إلى الغير.

و ذلك لأن مرجع هذا القول إلى كون معنى الضرار هو حصة خاصة من الضرر، و من الواضح انه يكفي في نفيه نفي الضرر، فالالتزام به لا يزيدنا شيئا.

كما ان الالتزام بان الضرار بمعنى التصدي إلى الضرر «1»، ان أريد به مجرد التصدي و لو لم يتحقق الضرر، فلا يلتزم بنفيه و حرمته قطعا. و ان أريد به التصدي المقارن للضرر، فهو مما يكتفي فيه بنفي الضرر. فلا أثر لتحقيق هذا القول أيضا.

كما انه لا أثر لتحقيق ما أفاده المحقق النائيني في معناه من: انه قصد الضرر و تعمده، و تطبيقه على سمرة بهذه الملاحظة «2».

و ذلك لاندراجه في الفقرة الأولى- أعني: نفي الضرر-، خصوصا إذا كان المقصود بنفي الضرر النهي عنه، لاختصاص متعلق النهي بما إذا كان عن قصد و إرادة.

و

بالجملة: جميع ما ذكر في معنى الضرار لا أهمية لتحقيقه و معرفة الصحيح منه، فلا داعي إلى إتعاب النّفس في ذلك، بل الأولى صرفها في ما هو أهم.

و أما لفظ: «لا»: فلا يخفى انها نافية لا ناهية، لأن: «لا» الناهية لا تدخل على الاسم، بل تدخل على الفعل المضارع. فانتبه.

الجهة السادسة

: في ما هو المراد من الهيئة التركيبية- أعني: «لا ضرر»- و المحتملات المذكورة فيها أربعة:

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2- 318- الطبعة الأولى.

(2) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر- 199- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 399

الأول: ان يكون المقصود بها النهي عن الضرر و تحريمه، و هو المنسوب إلى العلامة شيخ الشريعة (قدس سره) «1».

و يمكن أن يبيّن هذا المدعى بنحوين:

أحدهما: ان تكون الجملة خبرية مستعملة في مقام الإنشاء، فيكون الداعي إلى الاخبار عن نفي الضرر هو إنشاء النهي عن الضرر، نظير استعمال الجملة الخبرية الموجبة بداعي إنشاء الوجوب، مثل: «يعيد صلاته» و: «يغتسل».

و قد ذكر في محله: ان الجملة الخبرية الإيجابية في مقام الإنشاء تكون في الدلالة على الوجوب آكد من الجملة الطلبية، لكشفها عن شدة المحبوبية بنحو يرى الطالب حصول مطلوبه فيخبر عنه.

و نظير هذا البيان يتأتى في الجملة الخبرية السلبية المستعملة في مقام إنشاء الحرمة.

و الآخر: ان تكون الجملة خبرية مستعملة في مقام الاخبار عن عدم الضرر حقيقة، لكن المقصود الأصلي لهذا الاخبار هو الاخبار عن الملزوم، و هو وجود المانع الشرعي من الضرر الخارجي، و هو الحرمة، بملاحظة ان العدم يكون لازما للمنع الشرعي و النهي الصادر من الشارع المتوجه للمكلف المطيع.

و مثل هذا النحو من الاستعمال كثير في العرفيات، فكثيرا ما

يخبر- رأسا- عن عدم المعلول، و يكون المقصود الأصلي الاخبار عن وجود المانع، فيقال انه لا يتحقق احتراق الثوب في البيت، و يكون المقصود بيان رطوبته المانعة عنه.

و نحو ذلك كثير. فلاحظ.

الثاني: ان يكون المقصود نفي الحكم الشرعي المستلزم للضرر، فينفى

______________________________

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 2- 526- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 400

المسبب و يراد نفي السبب، و هو الّذي قرّبه الشيخ (رحمه اللّٰه) «1».

و هو مما يمكن ان يبيّن بنحوين أيضا:

أحدهما: ان يكون المراد بالضرر في قوله: «لا ضرر» سببه، و هو الحكم، فيكون إطلاق الضرر عليه إطلاقا مسامحيا ادعائيا من باب إطلاق لفظ المسبب و إرادة السبب، نظير إطلاق لفظ: «الإحراق» على إلقاء الثوب في النار و إطلاق لفظ: «القتل» على الرمي أو الذبح.

و بالجملة: يكون ما نحن فيه من استعمال لفظ المسبب في السبب ادعاء، فيراد من: «لا ضرر»: «لا حكم ضرري».

و الآخر: ان يكون المراد نفي نفس الضرر حقيقة، و لكن المقصود الأصلي هو الاخبار عن نفي سببه و هو الحكم الشرعي.

و الأخبار عن ثبوت المسبب أو نفيه بلحاظ ثبوت السبب أو نفيه كثير عرفا، نظير الاخبار عن مجي ء المرض و يكون الملحوظ بيان مجي ء سببه، أو الاخبار عن عدم مجي ء العدو للبلد و يكون المقصود بيان عدم توفر أسباب المجي ء لديه، أو الأخبار بمجي ء الهلاك و المراد بيان مجي ء سببه. و نحو ذلك.

الثالث: ان يكون المقصود نفي الضرر غير المتدارك، و هو مما يمكن ان يبين بنحوين أيضا.

أحدهما: ان يكون المنفي رأسا هو الحصة الخاصة، و هي الضرر غير المتدارك، بان يراد من الضرر: الضرر الخاصّ، و يكون المقصود بيان لازمه، و هو ان

كل ضرر موجود متدارك فيدل على ثبوت الضمان، كما يقال: ان كل مجتهد يلبس العمامة، في مقام بيان عدم اجتهاد شخص لا يلبس العمامة.

و الآخر: ان يكون المنفي هو الطبيعة بلحاظ تحقق التدارك في الأضرار

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 314- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 401

الواقعة خارجا، فان الضرر و ان كان يصدق بحسب الدقة في مورد التدارك، لكن لا يصدق عرفا، فيصح نفي الضرر إذا تحقق تداركه، و لذا يقال لمن غصب منه مال و عوض بمثله: انك لم تتضرر لأنك أخذت مثله.

ففيما نحن فيه يكون المنفي هو الضرر بلحاظ تشريع التدارك الموجب لعدم صدق الضرر عرفا.

و لا يخفى ان النص على هذا الاحتمال يختص بنفي الضرر على الغير لا الضرر على النّفس، إذ لا معنى للتدارك بلحاظ ضرر النّفس.

و على هذا الأساس تنحل مشكلة عدم ثبوت خيار الغبن مع العلم بالغبن، بناء على كون مدرك الخيار هو قاعدة نفي الضرر، إذ وجّهه الاعلام بما لا يخلو من مناقشة، كدعوى عدم شمول القاعدة على مورد الإقدام لعدم الامتنان و نحو ذلك. و لكن على هذا الاحتمال يتضح وجهه، لأن الضرر الواقع على المشتري بالغبن لم يكن من البائع خاصة، بل هو مشترك بين البائع و المشتري نفسه، لعلمه بالغبن و اقدامه، و قد عرفت عدم شمول القاعدة لضرر النّفس. فلاحظ و تحقيق الكلام موكول إلى محله.

الرابع: ان يكون المقصود نفي الحكم الثابت للموضوع الضرري، فيراد من نفي الضرر نفي أحكام الموضوع الضرري من باب نفي الحكم بلسان نفي موضوعه نظير: «لا شك لكثير الشك» و: «لا صلاة الا بفاتحة الكتاب» و نحو ذلك.

و هذا الوجه مما بنى عليه

صاحب الكفاية رحمه اللّه في نفي الضرر و شبهه من نفي العسر و الحرج «1».

و تظهر الثمرة بين ما أفاده و بين مختار الشيخ في بيان نفي الاحتياط بأدلة

______________________________

(1) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول- 382- طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 402

نفي العسر و الحرج في مقدمات دليل الانسداد. فراجع تعرف.

هذه هي المحتملات الأربعة المذكورة، و قد عرفت ان لكل منها شواهد و أمثلة عرفية.

فيقع الكلام في أن أيها المرجّح؟ فنقول و على اللّه سبحانه الاتكال:

ان ما أفاده صاحب الكفاية لا يقبل القبول، لأن نفي الحكم بلسان نفى الموضوع و ان تعارف في الاستعمالات العرفية و الشرعية، لكن المتعارف توجه النفي إلى نفس موضوع الحكم الشرعي، و يراد نفي الآثار المترتبة عليه شرعا، نظير: «لا شك لكثير الشك». فان الشك في الصلاة له أحكام خاصة فيقصد نفيها عن شك كثير الشك بهذا اللسان.

و النفي في ما نحن فيه تعلق بنفس الضرر، و هو مما لا أثر له يراد نفيه بنفيه، و لو كان له أثر فلا يقصد جزما نفيه و رفعه، بل هو يترتب على تحقق الضرر مع انه أجنبي عن مدعى صاحب الكفاية.

و قياس المورد على مورد رفع الاضطرار بحديث الرفع قياس مع الفارق، لأن الرفع في حديث الرفع تعلق بالفعل في حال الاضطرار لا بنفس الاضطرار، فيكون مقتضاه نفي الآثار المترتبة عليه في حال الاضطرار. و ليس كذلك فيما نحن فيه، لأن المنفي هو الضرر نفسه لا الفعل الضرري.

ثم إن نظر صاحب الكفاية ..

إن كان إلى دعوى ان لسان الحديث و ما شابهه هو تنزيل الموجود منزلة المعدوم بلحاظ عدم ترتب أثره عليه، فينفي

ادعاء و مسامحة.

فيرد عليه إشكال آخر: و هو ان الّذي يتوخاه صاحب الكفاية هو الالتزام بعدم ترتب الأثر على الموضوع الضرري و انتفاء حكمه أيضا من وجوب أو حرمة أو غيرهما.

و من الواضح ان تنزيل الموجود منزلة المعدوم انما يصح بلحاظ عدم ترتب

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 403

أثره المترقب عليه. كعدم ترتب الصحة أو اللزوم على البيع الضرري، فيقال انه لا بيع.

و لا يصح ذلك بلحاظ عدم ثبوت حكمه له، فلو لم يجب الوضوء الضرري لا يصح ان يقال إنه لا وضوء.

و بالجملة: لا يصح التنزيل المزبور بلحاظ انتفاء الحكم التكليفي المتعلق بالفعل الضرري، فلا يتوصل صاحب الكفاية إلى ما يبغيه بما التزم به.

نعم، إذا كان نظره إلى دعوى تكفل الحديث و ما شابهه نفي الموضوع حقيقة في عالم التشريع، فيدل على انتفاء اثره و انتفاء حكمه، لم يرد عليه هذا الإيراد، إذ يصح نفي الفعل عن عالم التشريع إذا كان حكمه التكليفي منفيا، كما هو واضح. و كيف كان، فالعمدة هو الإيراد الأول الّذي ذكرناه، و قد كنا نتخيّل انّه مغفول عنه في الكلمات لكن اطلعنا على تعرض غير واحد «1» له و في مقدمتهم شيخ الشريعة رحمه اللّه «2».

و أما احتمال كون المقصود نفي الضرر غير المتدارك.

فقد أورد عليه بوجوه عمدتها ثلاثة:

الأول: ما أفاده الشيخ رحمه اللّه في رسالته من ان التدارك المانع من صدق الضرر عرفا هو التدارك الخارجي لا مجرد الحكم بالضمان أو وجوب التعويض و نحو ذلك، فانه لا يمنع من صدق الضرر حقيقة «3».

و عليه، فالتدارك الجعلي التشريعي لا يصحح نفي الضرر كما يحاول المدعي إثباته.

الثاني: ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه من ان مقتضى هذا

الوجه

______________________________

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 2- 527- الطبعة الأولى.

(2) الأصفهاني العلامة شيخ الشريعة. قاعدة لا ضرر- 24- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(3) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 315- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 404

تكفل الحديث لتشريع الضمان، مع انه لم نر من العلماء من استدل على ثبوت الضمان في مورد مّا بحديث نفي الضرر مع ورود بعض النصوص في باب الضمان المأخوذ في موضوعها الضرر الموجب لتنبههم إلى ذلك على تقدير الغفلة عنه، مما يكشف عن عدم فهم العلماء ذلك من الحديث، و بما انهم أهل عرف و لسان، يكشف ذلك عن ان هذا الوجه بعيد عن الفهم العرفي، فلا يمكن أن يصار إليه «1».

الثالث: ما أفاده في الكفاية من استهجان التعبير بالضرر و إرادة خصوص حصة منه، فيراد من لفظ الضرر: «الضرر غير المتدارك» «2».

هذا محصل الإيرادات على هذا الوجه.

و لا يخفى عليك ان الأخير منها انما يتوجه على التقريب الأول للاحتمال المذكور.

أما على التقريب الثاني، فلا يتوجه عليه، لأن المنفي- بالتقريب الثاني- هو طبيعي الضرر.

و من الغريب ان المحقق الأصفهاني يقرر بدائيا إشكال الكفاية بلا إيراد عليه، ثم ينبّه في آخر كلامه بمناسبة أخرى على هذا التقريب السالم عن ورود الإشكال، فراجع كلامه «3».

و أما ما أفاده الشيخ رحمه اللّه، فيمكن دفعه بما أشار إليه المحقق الأصفهاني من: أن الحكم الوضعي بالضمان يجبر النقص المالي بنفسه، لأنه حكم باشتغال ذمة الضامن للمضمون له، فيملك المضمون له في ذمة الضامن قيمة ما أضرّه به، فلا يفوته شي ء بذلك، فلا يتحقق الضرر.

______________________________

(1) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر- 200- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

(2) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية

الأصول- 381- طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

(3) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2- 320- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 405

و أما ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه، فيمكن التفصي عنه: بأن حديث نفي الضرر ..

إن كان متكفلا لإنشاء التدارك و الضمان في مورد الضرر، تم ما ذكره من انه لازمه كون الضرر من أسباب الضمان، مع انه لم يذكر ذلك في كلمات العلماء و الفتاوي.

و اما ان كان متكفلا للاخبار عن عدم ترتب الضرر لتشريع التدارك و الضمان في موارده لكن لا بعنوان الضرر بل بعناوين أخرى ملازمة له كالإتلاف و التغرير و نحوهما- نظير ما ذكرناه في رواية مسعدة بن صدقة المذكورة في أخبار أصالة الحلّ من انها لا تتكفل جعل أصالة الحلّ، بل تتكفل الإخبار عن جعل الحلية في موارد الشك بعناوين مختلفة من يد و استصحاب و نحوهما-. فلا يكون مقتضى ذلك كون الضرر من أسباب الضمان بل سببه هو العنوان الآخر الملازم له كالإتلاف، فعدم ذكر الضرر من أسباب الضمان في كلمات العلماء لا ينافى تكفل الرواية بيان تشريع الضمان في موارد الضرر، لذكرهم الأسباب المأخوذة في الحكم بالضمان في أدلة تشريعه، و لا معنى لذكرهم الضرر بعد أن لم يكن بعنوانه سببا.

نعم، عند الشك في ثبوت الضمان في مورد من موارد الضرر لعدم دليل.

خاص يساعد عليه يمكن التمسك بهذا الحديث لإثبات تشريع الضمان فيه و لو كان موضوعه مجهولا. و لعل من تلك الموارد مورد تفويت المنفعة الّذي وقع الكلام في ترتب الضمان عليه. و قد بنى البعض على الضمان لأنه من مصاديق الإتلاف.

فتدبر جيدا.

ثم انه قد أورد على هذا الوجه بوجه رابع و

هو: ان كل ضرر في الخارج ليس مما حكم الشارع بتداركه تكليفا أو وضعا، فلو تضرر تاجر باستيراد تاجر آخر أموالا كثيرة لم يجب تداركه لا تكليفا و لا وضعا، و الالتزام بوجوب التدارك

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 406

في أمثاله يستلزم تأسيس فقه جديد «1».

و هذا الإيراد لا يختص به هذا الوجه بل هو وارد على جميع الوجوه الأربعة، لأن الاستيراد إذا كان ضرريا فيلزم ان يبنى على تحريمه كما هو مقتضى الوجه الأول، أو على عدم صحة البيع أو عدم لزومه، كما هو مقتضى الوجه الثاني و الرابع. مع انه لا يلتزم به.

فلا بد من التصدي لدفعه، و قد أشرنا إلى بعض الكلام فيه في تفسير:

«الضرر»، و سيجي ء توضيح الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

و الّذي تحصل ان شيئا ممّا ذكر من هذه الإيرادات غير وارد.

و الّذي يبدو لنا ان هذه الإيرادات التماس لوجه الارتكاز الموجود في النّفس، فان الارتكاز العرفي و الذوق الفقهي لا يساعد على هذا الوجه، فصار كل منهم إلى بيان سبب ذلك بوجه خاص قد عرفت ما فيه.

و العمدة في دفع هذا الوجه أن يقال: إن الضرر له نسبتان و ارتباطان نسبة إلى الفاعل الصادر منه الضرر و نطلق عليه الضارّ، و نسبة إلى المفعول الواقع عليه الضرر و نطلق عليه المتضرر. و من الواضح ان التدارك ينفي صدق الضرر عرفا بالنسبة إلى المتضرر، فيقال له إنك لم تتضرر، و لا ينفي صدقه على الضار، فانه لا يقال له عرفا إنك لم تضر زيدا بل يقال له انك أضررته فتدارك. كيف؟

و موضوع التدارك هو صدور الضرر منه، و التدارك فرعه كما لا يخفى. و من الظاهر ان

الملحوظ في الحديث- خصوصا بملاحظة تطبيق المضار على سمرة- هو نفي الضرر بلحاظ نسبته إلى الضار لا المتضرر، فلا يناسب حملها على تشريع التدارك.

و ببيان آخر: ان المنفي في الحديث هو الضرر بقول مطلق، و هو لا يصح

______________________________

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 2- 529- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 407

لو كان بملاحظة جعل التدارك، لأنه بهذه الملاحظة لا بدّ ان يقيد بالضرر بالنسبة إلى المتضرر نفسه لا ان ينفي مطلقا. فلاحظ.

و الّذي يتحصل مما ذكرنا هو بطلان الاحتمالين الثالث و الرابع فيبقى لدينا الاحتمال الأول و الثاني.

أما الثاني، فقد استشكل فيه:

أولا: بان إطلاق لفظ المسبب على السبب و ان تعارف في الاستعمالات، إلا انه انما يصح في الأسباب و المسببات التوليدية كالإلقاء و الإحراق، و الرمي و القتل. فيقال عن الإلقاء إنه إحراق، و يقال عن الرمي إنه قتل.

أما في مثل المقدمات الإعدادية، فلا يطلق عليها اسم المسبب و ذي المقدمة، فلا يقال لبيع السكين انه قتل إذا ترتب عليه ذبح المشتري لشخص بالسكين الّذي اشتراه.

و من الواضح ان نسبة التكليف إلى الفعل الضرري ليست نسبة السبب التوليدي إلى مسببه، بل نسبة المعدّ، لتخلل الإرادة و الاختيار من المكلّف، كيف؟

و الفعل لتحريك الإرادة من المكلف.

و عليه، فلا يقال عن التكليف إنه ضرر، إذا كان مما يترتب عليه الضرر.

فلا وجه لدعوى كون المراد من نفي الضرر نفي الحكم الضرري.

و قد يجاب عن هذا الإشكال: بأنه و إن كانت الإرادة تتخلل بين الفعل و التكليف، لكن هذا لا ينافي نسبة الفعل إلى المولى المكلّف إذا كانت له قوة قاهرة تلزم المكلف بامتثال حكمه بنحو يكون تجاه مولاه ضعيف الإرادة، و لذا

ينسب القتل إلى السلطان إذا أمر جنده بقتل أحد، فيقال: إن السلطان قتله، لأجل ان إرادة الجندي تجاه أمر السلطان كلا إرادة.

و عليه، فمن الممكن ان يكون الملحوظ في نفي الضرر مقام الطاعة و امتثال العبد أمر مولاه، بحيث يكون الأمر هو الجزء الأخير للإرادة و التحرك

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 408

نحو العمل، فيصح بهذا اللحاظ إطلاق الضرر على الحكم و نفي الحكم بلسان نفي الضرر.

و ثانيا: ان الضرر اما اسم مصدر أو هو مصدر لم تلحظ فيه جهة الصدور، بل هو تعبير عن نفس المبدأ، و ليس كالإضرار يحكي به عن المبدأ بملاحظة جهة الصدور فيه، فالضرر كالوجود و الإضرار كالإيجاد، و مثله لا يصح إطلاقه على سببه التوليدي، بل الّذي يصح هو اسم المسبب الملحوظ فيه جهة الصدور، فمثل الإحراق يصح إطلاقه على الإلقاء، أما لفظ الحرقة فلا يصح إطلاقه على الإلقاء.

و عليه، فلا يقال للحكم انه ضرر و إن صح ان يقال انه إضرار. و إلى هذا أشار المحقق الأصفهاني رحمه اللّه في حاشيته على الكفاية «1». و هو إشكال متين لا دافع له.

هذا و لكن لا يخفى عليك ان هذين الإيرادين انما يتوجهان على هذا الاحتمال بالتقريب الأول.

أما على التقريب الثاني الراجع إلى دعوى كون المنفي نفس الضرر حقيقة و جدّا و انما المقصود الأصلي بيان لازمه من رفع الحكم الضرري باعتبار نشوء الضرر منه، فلا مجال لهذين الإشكالين، إذ لم يطلق الضرر على الحكم بل استعمل في معناه الحقيقي و أريد نفي الحكم بالملازمة، بل يكون هذا الاحتمال بالتقريب الثاني احتمالا وجيها ثبوتا لعدم إشكال فيه، و إثباتا لأن له نظائر في الاستعمالات العرفية كما تقدم.

و أما

الأول:- و هو احتمال تكفل الحديث النهي عن الضرر- فقد أورد عليه:

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2- 320- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 409

أولا: بعدم معهودية استعمال مثل هذا التركيب و إرادة النهي منه جدا.

و هذا الإيراد ذكره في الكفاية «1».

و ثانيا: أنه بعيد كما أفاده المحقق النائيني، و لعله لأجل انه خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا إذا قامت قرينة عليه أو انحصر المراد به- كما في مثل: «لا يعيد صلاته»- و ليس الأمر فيما نحن فيه كذلك «2».

و لا يخفى ان هذين الإيرادين- لو تمّا- لا يردان إلا على التقريب الأول لهذا الاحتمال. أما على التقريب الثاني الراجع إلى دعوى استعمال الجملة في نفى الضرر حقيقة بداعي الاخبار و يكون المقصود الأصلي بيان إيجاد المانع من الضرر و هو النهي عنه، فلا مجال لهذين الإيرادين، إذ لم يستعمل في مقام النهي كي يقال انه لم يعهد ذلك في مثل هذا التركيب، أو انه خلاف الظاهر، لأن الجملة خبرية فلا يصار إليه إلا بدليل، بل استعمل في معناه الحقيقي و أريد جعل الحرمة بالملازمة، و لا بعد فيه بعد ان عرفت ان له نظائر عرفية في مقام المحاورة.

و المتحصل: ان الوجهين الأولين في حديث نفي الضرر بالتقريبين المزبورين لا محذور فيهما.

و لا يخفى عليك انهما بملاك واحد و ملاحظة جهة واحدة، و هي بيان عدم المعلول مع كون الغرض الأصلي هو بيان عدم تحقق أحد اجزاء علته غاية الأمر ان الملحوظ في الاحتمال الثاني، هو بيان عدم المعلول- و هو الضرر- من جهة عدم تحقق مقتضية، و هو الحكم المستلزم للضرر، فيدل على رفع الحكم الضرري.

و الملحوظ في

الاحتمال الأول بيان عدم المعلول من جهة تحقق مانعه، و هو الحرمة المانعة من تحقق الضرر، فيدل على تحريم الضرر.

______________________________

(1) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول.- 382- طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

(2) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر- 200- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 410

و قد عرفت ان كلا الاستعمالين متداول عرفا، فمثلا إذا توجه سيل ماء على بيت شخص بحيث يشكل خطرا عليه، فقد يقول القائل انه لا خطر على صاحب البيت و يكون قصده بيان تفرق السيل و تبدده في الرمال فلا مقتضي للخطر. و قد يقول انه لا خطر على صاحب البيت و يكون قصده بيان وجود مانع يصدّ السيل عن الوصول إلى البيت فيرتفع الخطر، و هو في كلا الاستعمالين أخبر عن ارتفاع الخطر حقيقة و كان في نفس الوقت يقصد بيان لازمه من عدم المقتضي أو وجود المانع. فلا مخالفة للظاهر في هذا الاستعمال.

و لأجل ما ذكرنا كان الاحتمالان الأول و الثاني كفرسي رهان لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر، لعدم وجود ما يعينه.

نعم قد يقال بترجيح الثاني بملاحظة تطبيق القاعدة في بعض الروايات على مورد لا يحرم الضرر فيه، بل الثابت فيه ارتفاع الحكم الضرري، و هو مورد الأخذ بالشفعة، فان بيع الشريك حصته من غير شريكه ليس محرما، بل لا لزوم له لأجل الضرر، فالالتزام بالوجه الأول يتنافى مع تطبيق الحديث في مورد الشفعة.

و لكن في قبال هذا الإشكال إشكال آخر على الوجه الثاني نظيره، فان الحديث طبق أيضا في مورد لا حكم فيه من الشارع يستلزم الضرر فلا بدّ ان يحمل فيه على إرادة النهي و الحرمة، و هو مورد

قضية سمرة بن جندب.

و توضيح ذلك: ان الحكم الشرعي على نحوين اقتضائي كالوجوب و الحرمة، و غير اقتضائي كالإباحة. و الحكم الّذي يستلزم الضرر و يكون منشئا لتحقق الضرر خارجا هو الحكم الاقتضائي، لأنه يكون داعيا للمكلف نحو العمل و يتحرك المكلف نحو الفعل بملاحظة وجوده. و أما الحكم الترخيصي مثل الإباحة، فبما انه لا اقتضاء فيه و لا تحريك، فلا يكون منشئا للضرر، لأن مرجع الإباحة إلى بيان عدم المانع من قبل الشارع و بيان عدم الملزم من قبله، فهو لا

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 411

اقتضاء بالنسبة إلى الفعل و بالنسبة إلى الترك، و مثله لا يصحح استناد الضرر إلى المولى، إذ ما لا اقتضاء فيه بالنسبة إلى الفعل كيف يصحح نشوء الفعل من قبله؟. و مجرد التمكن من المنع و عدم التصدي له لا يصحح اسناد الفعل إليه، فلو رأيت شخصا يريد قتل زيد و كنت متمكنا من منعه و صدّه فلم تصدّه فقتله، فهل يصح ان يسند القتل إليك؟ لا إشكال في عدم صحته.

و إذا اتضح ذلك، فمن الواضح انه في قضية سمرة لا إلزام من قبل الشارع لسمرة في العبور على بيت الأنصاري بدون إذنه، كي يكون هذا الحكم مرتفعا لأجل الضرر، بل غاية ما هناك هو جواز العبور، و مثله لا يستلزم الضرر كما عرفت، فتطبيق نفي الضرر بلحاظ نفي الحكم الضرري في هذا المورد غير صحيح، فلا بدّ ان يكون الملحوظ فيه جهة إيجاد المانع و هو تحريم الضرر.

إذن، فكل من الوجهين لا يخلو عن إشكال.

نعم، لو التزم ان الضرر في موارد الإباحة يستند إلى الاذن الشرعي و الإباحة الشرعية، لم يكن في تطبيق الحديث في

قضية سمرة بلحاظ رفع الإباحة إشكال. و عليه فلا إشكال في الالتزام بالوجه الثاني، و يكون لازما للتحريم في بعض الموارد مما كان الحكم المرتفع فيه هو الجواز. و نتيجته تكون ملازمة لنتيجة الالتزام بتكفلها النهي عن الضرر، لأنها تثبت حرمة الضرر، مضافا إلى رفع الحكم الإلزامي على تقدير ثبوته.

لكن عرفت ان الإباحة لا تصلح ان تكون منشئا للفعل الضرري، لأن مرجعها إلى عدم الملزم، و الاقتضاء بكل من طرفي الفعل و الترك، فلا يصح ان يستند إليها أحد الطرفين. فالإشكال متوجه.

و الّذي نختاره- بعد جميع ما تقدم- في معنى قوله: «لا ضرر و لا ضرار» هو: كون المراد الاستعمالي و الجدي نفي الضرر و الضرار في الخارج حقيقة، و القصد الأصلي من ذلك بيان تصدي الشارع إلى لازم ذلك و هو رفع مقتضى

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 412

الضرر و إيجاد المانع منه، فان عدم المعلول لازم لأمرين كما عرفت، فالكلام بصدد بيان كلا الأمرين من عدم المقتضي و وجود المانع.

و قد عرفت كثرة مثل ذلك في الاستعمالات العرفية كما تقدم بيان بعض الشواهد.

و لا يخفى ان هذا لا يرجع إلى استعمال اللفظ في أكثر من معنى، إذ: «لا ضرر» لم يستعمل الا في معناه و هو نفي الضرر.

يبقى لدينا سؤالان يدوران حول تحديد المختار و توضيحه:

السؤال الأول: انه هل الملحوظ بيان ثبوت كلا اللازمين في عرض واحد، أو ان الملحوظ بيان ثبوتهما بنحو الطولية، بان يكون المقصود بيان ارتفاع الضرر برفع مقتضية شرعا، فإذا لم يكن له مقتض شرعي يجعل المانع، ففي المورد الّذي يكون فيه حكم ضرري، فنفي الضرر لا يتكفل سوى بيان رفعه من دون جعل تحريم، و انما

يتكفل جعل الحرمة في مورد لا يكون فيه حكم ضرري؟.

و الجواب عن هذا السؤال: ان بيان ثبوت اللازمين بنحو الطولية و إن كان لا محذور فيه ثبوتا و لا إشكال فيه، إلا انه يحتاج إلى مئونة زائدة في مقام الإثبات و إلى قرينة تقتضي ذلك، و هي غير موجودة. فمقتضى إطلاق النفي كون المراد ثبوت كلا اللازمين في عرض واحد، ففي موارد الضرر كما يرتفع الحكم الضرري يثبت تحريم الضرر، و ذلك لأن نفي الضرر خارجا لا يحصل بمجرد رفع الحكم، بل لا بد من إيجاد المانع منه، و هو الحرمة، لأن مجرد ارتفاع وجوب الوضوء مثلا لا يمنع من تحققه خارجا، فقد يأتي به المكلف. نعم ارتفاع الضرر لا يمكن ان يكون إلا برفع منشئه و هو الحكم.

و بالجملة يكون مفاد الحديث كلا الأمرين من نفي الحكم و حرمة الفعل الضرري معا في عرض واحد و لا محذور في الالتزام بذلك.

نعم بعض الموارد قد لا تكون قابلة لكلا الأمرين فلا يثبت فيها إلا

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 413

أحدهما فقد لا يقبل المورد لرفع الحكم لعدم ثبوت الحكم الضرري القابل للرفع كما في مثل قضية سمرة، فلا يثبت فيها سوى تحريم الإضرار و هذا لا ينافى التعميم في المورد القابل.

و قد يشكل بناء على ذلك بان مقتضى ما ذكر من التعميم ثبوت الحرمة في مورد الشفعة مضافا إلى رفع الحكم الضرري، و المفروض عدم الحرمة. و لذا جعل تطبيقها في مورد الشفعة من موارد الإشكال على كون المراد بالقاعدة النهي عن الضرر- كما تقدم- فالإشكال بعينه وارد على المختار أيضا.

و يندفع هذا الإشكال بان ما ينشأ منه الضرر لا يقبل تعلق التحريم

به و يمتنع ثبوت الحرمة له، فهو من الموارد التي لا تكون قابلة لكلا اللازمين بيان ذلك:

ان بيع أحد الشريكين حصته من شخص ثالث مجهول الحال لا ضرر فيه إلا بلحاظ لزوم البيع و عدم قابليته للفسخ. و الا فلو فرض كونه متزلزلا و أمره بيد الشريك الآخر، فلا تعد شركة الشخص الجديد ضررا.

إذن فما يستلزم الضرر هو لزوم البيع، فهو مرتفع لأنه حكم شرعي قابل للرفع، لكن لا معنى للنهي عنه لأنه ليس من أفعال المكلف بل من أفعال الشارع نفسه فيمتنع تعلق الحرمة به. اذن فمورد الشفعة نظير مورد قصة سمرة مما لا يقبل ثبوت كلا اللازمين. فتدبر.

السؤال الثاني: ان استعمال «لا ضرر» في نفي الضرر هل هو من باب الاستعمالات الكنائية التي لا يكون المراد الاستعمال فيها مرادا جدا بل يكون المراد الجدي هو اللازم مثل قول القائل: (زيد كثير الرماد) و هو يريد واقعا انه كريم فهو لم يقصد الاخبار عن كثرة رماده و انما أخبر عن كرمه، بل قد يستعمل ذلك و لا رماد له أصلا كما إذا كانت وسائل طبخه على الكهرباء التي لا تخلّف رمادا أو انه ليس من ذلك الباب بل المدلول الاستعمالي مراد جدا و حقيقة، و في الوقت

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 414

نفسه يقصد الاخبار عن الملازم؟.

و الجواب: ان الالتزام بأنه من باب الاستعمالات الكنائية و ان لم يكن فيه محذور و يتم المطلب به أيضا لكن الظاهر من نظائره كما في الاستعمالات العرفية هو الثاني، فمثل قول القائل: «لا خطر عليك»، بملاحظة دفعه مقتضى الخطر أو إيجاد المانع منه، كما يقصد بيان ارتفاع المقتضى جدا، بقصد نفي الخطر حقيقة لأجل تهدئة

باله تسكين اضطرابه، و ليس قصده مجرد بيان رفع المقتضي من دون بيان ارتفاع الخطر، نظير «زيد كثير الرماد».

و عليه، فالظاهر ان نفي الضرر الوارد في كلام الشارع نظير نفي الخطر الوارد في كلام أهل العرف يراد منه بيان عدم الضرر واقعا إظهارا للامتنان و الرحمة، فان في بيان عدم المسبب من مظاهر الامتنان و العطف ما لا يوجد في بيان عدم السبب.

نعم قد يشكل الالتزام بذلك بان مقتضاه هو كون الحديث يتكفل الاخبار عن عدم الضرر خارجا بملاحظة عدم المقتضي أو وجود المانع، نظير اخبار المخبر بزوال الخطر لحدوث مانع من السيل.

و من الواضح ان هذا يصح لو فرض ان الشارع تكفل جعل المانع التكويني من حدوث الضرر أو رفع المقتضي التكويني له، و الحال انه لم يتكفل ذلك، بل تكفل رفع المقتضي التشريعي و جعل المانع التشريعي، و هو الحرمة، و غير خفي ان ذلك لا يلازم عدم الضرر. لفرض حصول العصيان من العبيد، و ما أكثره، فيكون اخباره بعدم الضرر حقيقة مخالفا للواقع و هو مما يستحيل عليه تعالى.

فيتعين ان يحمل على كونه استعمالا كنائيا لم يقصد به جدا إلا الاخبار عن لازمه من دون الاخبار عن المدلول الاستعمالي.

و يمكن الجواب عن ذلك: بأنه يمكن ان يكون الملحوظ في نفي الضرر

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 415

مقام الطاعة و المكلّف المطيع، بان يراد انه لا يتحقق الضرر من مثله، و هو لا ينافي جعل المانع بالنسبة إلى جميع المكلّفين، إذ جعل الحرمة لجميع المكلّفين يلازم عدم تحقق الضرر خارجا من المطيع.

و الداعي إلى الالتزام بهذا التقييد ما عرفت ان الظاهر من: «لا ضرر» بملاحظة نظائرها في الاستعمالات العرفية هو الاخبار

عن المدلول المطابقي بنحو الجدّ، فلا وجه لرفع اليد عنه مع إمكان الالتزام به و لو بارتكاب التقييد.

و المتحصل: ان قاعدة نفي الضرر تتكفل معنى عاما شاملا جامعا بين نفي الحكم المستلزم للضرر و بين حرمة الضرر في آن واحد، و لا نرى في ذلك محذورا، و لا يرد عليه أي إشكال.

و هي بذلك تكون قاعدة عامة سارية في جميع الموارد من عبادات و معاملات.

لكن قد يتوقف عن الالتزام بذلك لجهتين أشار إليهما الشيخ رحمه اللّه في كلامه:

أما الجهة الأولى: فهي ما ذكره في كتاب الفرائد من: ان هذه القاعدة موهونة بكثرة التخصيص الوارد عليها بنحو يكون الخارج عنها أضعاف الباقي تحتها، بل لو التزم بالعمل بعموم القاعدة لزم منه فقه جديد.

________________________________________

قمّى، سيد محمد حسينى روحانى، القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، 3 جلد، چاپخانه امير، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)؛ ج 5، ص: 415

و بما ان تخصيص الأكثر يكون مستهجنا عرفا فلا يمكن الالتزام بما هو ظاهرها لاستلزامه تخصيص الأكثر، بل يكون هذا التخصيص قرينة على كون المراد منها معنى لا يلزم منه ذلك.

و عليه، فلا يمكن التمسك بها في قبال أدلة الأحكام إلا في مورد يتمسك فيه الأصحاب بها ليكون ذلك منهم معينا للمراد بها بناء على كفاية مثله.

ثم انه بعد ما ذكر هذا الإشكال دفعه بوجهين:

أحدهما: منع أكثرية الخارج و ان كان كثيرا في نفسه، و مثل ذلك لا

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 416

استهجان فيه.

و الآخر: إن الموارد الكثيرة الخارجة عن العام إنما خرجت بعنوان واحد جامع لها و إن كان مجهولا لدينا. و قد ثبت في محله ان تخصيص الأكثر إذا كان بعنوان واحد لا

استهجان فيه، كما إذا قيل: «أكرم الناس» و دل دليل آخر على خروج الفاسق منهم و هو يشمل أكثر أفراد الناس، فانه لا استهجان فيه عرفا.

هذا ما أفاده الشيخ رحمه اللّه «1».

و قد أورد عليه صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل: بأن خروج الأكثر بعنوان واحد إنما لا يكون مستهجنا فيما إذا كان الافراد التي استوعبها العام هي العناوين التي يعمها لا الأشخاص المندرجة تحتها، لعدم لزوم تخصيص الأكثر بإخراج أحد العناوين حينئذ، لأنه أحد افراد العام لا أكثر افراده.

و أما إذا كان الملحوظ في العموم هو الأشخاص المندرجة تحت العناوين المنطبقة عليها، كان إخراج أكثرها بعنوان واحد مستهجنا، لأنه تخصيص للأكثر، و هو مستهجن مطلقا.

هذا ما أفاده في الحاشية، و كأنه يحاول أن يقول: إن نفي الأحكام الضررية بحديث: «لا ضرر» من قبيل الثاني، و هو ما كان الحكم فيه على ذوات الأشخاص لا على العناوين، فلا يندفع محذور تخصيص الأكثر بوحدة عنوان الخارج كما أفاده الشيخ رحمه اللّه «2».

و للمحقق النائيني رحمه اللّه تحقيق في المقام يحاول فيه التفصيل بين القضية الحقيقية و القضية الخارجية و الالتزام بان تخصيص الأكثر بعنوان واحد إنما لا يستهجن في القضايا الحقيقية لا الخارجية، ثم يختار ان عموم نفي الضرر

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 316- الطبعة الأولى.

(2) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول- 169- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 417

من قبيل القضايا الخارجية. و هو بذلك ينتهي إلى موافقة صاحب الكفاية (رحمه اللّه) «1».

و نحن لا نرى أنفسنا بحاجة إلى نقل كلامه.

بل نذكر ما نراه هو القول الفصل في هذا المقام، فنقول- بعد الاتكال عليه سبحانه-: ان العموم الشامل

لجميع أفراده قد يكون له جهتان من العموم:

إحداهما: العموم بحسب الأنواع و الأصناف المندرجة تحته، كالنحوي و الفقيه و الطبيب و المتكلم و العادل و الفاسق بالنسبة إلى العالم، فقد يلحظ جميع هذه الأصناف و غيرها في الحكم على العالم، فيراد به الطبيعة السارية في جميع هذه الأصناف، كما أنه قد يلحظ بعضها و يخرج البعض الآخر.

و الأخرى: العموم بحسب الافراد من جميع الأصناف، فيكون الملحوظ كل فرد فرد من افراد الأصناف المختلفة للعالم، فيراد به الطبيعة السارية في جميعها، كما انه قد يريد بعض تلك الافراد مع المحافظة على العموم الأنواعي.

و في مثل هذا العموم الحاوي لكلتا الجهتين إذا ورد تخصيصه بعنوان واحد جامع لكثير من الافراد، فانما يصطدم دليله مع العموم الأنواعي للعام فيخرج منه النوع الخاصّ.

و من الواضح انه لو كان ذلك العنوان جامعا لأكثر الافراد، لا يكون تخصيص العام به مستهجنا، لأن المخصص به هو جهة العموم الأنواعي، و هو بالنسبة إليه ليس تخصيصا للأكثر. و إما إذا ورد دليل أخرج أكثر الافراد بنحو يصطدم مع العموم الأفرادي كأن يقول- مثلا- لا يجب إكرام هؤلاء التسعين من أفراد العالم، و كان مجموع افراده مائة، كان ذلك من تخصيص الأكثر المستهجن.

______________________________

(1) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر- 210- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 418

و بذلك يظهر لك وجه كلام الشيخ رحمه اللّه في التزامه بعدم الاستهجان لو كان المقدار الخارج بعنوان واحد.

كما انه يظهر لك وجه كلام صاحب الكفاية، فان الإخراج بعنوان واحد انما لا يكون مستهجنا إذا كان الملحوظ فيه تخصيص العموم الأنواعي.

و هذا في المورد الّذي يكون العام مشتملا فيه على كلتا الجهتين من العموم.

أما

إذا كان متمحضا في العموم من حيث الافراد بحيث أخذ العنوان العام طريقا لإثبات الحكم على أفراده بلا ملاحظة جهة الأنواع، فان الدليل المخصص يصطدم رأسا مع العموم الأفرادي، فإذا كان ما يندرج تحته أكثر الافراد كان من تخصيص الأكثر المستهجن.

و قد يفرّق بين هذين القسمين من العموم، فيلتزم بان مثال القسم الأول هو العموم الملحوظ بنحو القضية الحقيقية. و مثال القسم الثاني هو العموم في القضايا الخارجية، نظير: «قتل من في العسكر».

و نحن بعد أن بيّنا جهة الفرق و نكتته لا يهمنا التسمية و لا نتقيد بها. إنما المهم هو. تحقيق أن عموم نفي الضرر من أي النحوين؟. و عليه يبتني تحديد رجحان ما أفاده الشيخ أو ما أفاده صاحب الكفاية.

و الّذي نراه هو ان عموم نفي الضرر من النحو الثاني- أعني: ما لوحظ فيه الحكم على الافراد بلا ملاحظة الأصناف- فهو مما يتمحض في جهة العموم الأفرادي، فهو أشبه بالقضية الخارجية و إن لم يكن منها، كما سنشير إليه.

بيان ذلك: ان المفروض هو كون دليل: «لا ضرر» موجبا للتصرف في أدلة الأحكام و مقيدا لها بصورة عدم الضرر، فالملحوظ فيه هو الأحكام المجعولة بأدلتها من قبل الشارع، كوجوب الوضوء و وجوب الصلاة و وجوب الصوم و حرمة التصرف في مال الغير و لزوم المعاملة و نحو ذلك.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 419

و من الواضح ان كل حكم من أحكام الشريعة ينشأ بمفرده و شخصه لا بعنوان جامع، فلم ينشأ وجوب الصلاة و وجوب الصوم و وجوب الحج بعنوان جامع بل كل جعل بمفرده. إذن فالجامع بين هذه الوجوبات ليس حكما شرعيا مجعولا، إذ لم يتعلق الإنشاء به بل تعلق بمصاديقه، و

تصنف الأحكام من عبادات و معاملات- مثلا- أو تكليف و وضع أو نحو ذلك، و إن كان ثابتا، لكن العنوان الصنفي أو النوعيّ الجامع عنوان انتزاعي واقعي ينتزع بعد ورود الأدلة المتكفلة لجزئيات الأحكام في الموارد المختلفة، و ليس أمرا مجعولا شرعا.

و عليه، فبما ان دليل نفي الضرر قد لوحظ فيه تضييق دائرة المجعول الشرعي بغير مورد الضرر، فلا محالة يكون النفي واردا على كل حكم حكم لا على الجامع، إذ ليس الجامع بينها حكما كي ينفي بدليل نفي الضرر.

نعم، قد يلحظ طريقا إلى أفراده، و لكن هذا غير تعلق النفي به، بل النفي متعلق حقيقة بافراد الحكم المجعولة.

و بعبارة أخرى: ان ملاحظة الصنف بما هو انما تكون إما لنفي دخله في الحكم و بيان ان الحكم وارد على الطبيعي الساري بحيث لا يكون الفرد بما هو ذا خصوصية، بل بما هو فرد للطبيعي. أو لبيان دخله في الحكم بما هو صنف.

و هذا انما يكون في مورد يحتمل دخالة الصنف في ثبوت الحكم و يكون قابلا لورود الحكم عليه، و صنف الحكم مما لا يقبل ورود نفي الجعل عليه، لأنه ليس بمجعول، فكيف يؤخذ موردا للنفي و الإثبات؟، بل غاية ما هناك يؤخذ طريقا إلى افراده و يكون النفي و الإثبات متعلقا مباشرة بالافراد، فلا يكون العموم في دليل: «لا ضرر» إلا افراديا. فتدبر.

و ما ذكرناه لا ينافي الالتزام بعدم اختصاصها بالاحكام الفعلية التي كانت مجعولة قبل ورود نفي الضرر، بل يعم كل حكم يجعل بعد ذلك، إذ ليس ملاك ما بيناه هو كون قضية: «لا ضرر» خارجية ينظر فيها إلى الافراد المحققة

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 420

الوجود، كما قد يتوهم فيرد

عليه ما عرفت، بل الملاك هو كون المنظور هو افراد الحكم و لو التقديرية، لا الجامع الصنفي.

و إذا تبيّن لك ما ذكرناه، يظهر لك كون الحق في جانب صاحب الكفاية في إيراده على الشيخ رحمه اللّه.

لكن لا يخفى عليك ان أصل الإيراد على القاعدة يبتني على مقدمتين:

إحداهما: كبرى استهجان تخصيص الأكثر. و الأخرى: صغرى ثبوت تخصيص الأكثر بالنسبة إلى دليل نفي الضرر.

و المقدمة الأولى محل كلام ليس محله هاهنا، و لعلنا نتوفق لإيضاح الحق فيها في مجال آخر، و ما تقدم منّا من البيان السابق انما هو يبتني على المفروغية عن أصل الكبرى و التسليم بها.

و لأجل ذلك يكون الإيراد على هذه القاعدة من ناحية الكبرى مركزا.

فالمهم في دفع الإيراد هو إنكار الصغرى.

فان الموارد التي ذكرت شاهدا على ثبوت تخصيص الأكثر هي موارد الدّيات و القصاص و الحدود و الخمس و الزكاة و النفقات و الحج و نجاسة المانع المضاف المسقط له عن المالية، و الضمان و غير ذلك.

و قد تصدى الاعلام إلى إنكار الصغرى و إثبات ان أكثر هذه الموارد ليست خارجة بالتخصيص، بل بالتخصص فلا استهجان فيه. و قد قيل في ذلك وجوه لا نطيل الكلام بذكرها.

و عمدة ما يمكن ان يقال في هذا المجال: ان دليل نفي الضرر انما يكون الملحوظ فيه هو خصوص الأحكام الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية بحيث تكون له حالتان، فيتقيد بخصوص حالة عدم الضرر بمقتضى الدليل.

و أما الأحكام الواردة في مورد الضرر فلا نظر للدليل إليها فيكون خروجها عنه بالتخصص.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 421

و عليه، فمثل الأحكام في باب الخمس و الزكاة و الضمان و الحدود و الدّيات و القصاص كلها واردة مورد الضرر فلا

تكون مشمولة للحديث رأسا.

و أما غير ذلك من الموارد كمورد نجاسة المائع المضاف و نحوه، فعلى تقدير ثبوت الحكم الضرري جزما و لم يمكن العمل فيه بقاعدة نفي الضرر، فلا مانع من الالتزام بخروجه عن القاعدة بالتخصيص. إذ هي موارد قليلة لا يلزم من خروجها تخصيص الأكثر، فلاحظ.

و ما ذكرناه في حديث نفي الضرر، هو نظير ما يذكر في حديث رفع الخطأ و النسيان من انه ناظر إلى الأحكام الثابتة للموضوع الأولي دون ما هو ثابت للخطإ بعنوانه، فيكون خروجه بالتخصص لا بالتخصيص. فراجع.

هذا تمام الكلام في الجهة الأولى من الإشكال.

أما الجهة الثانية، فهي ما أشار إليها الشيخ في رسالته الخاصة المعمولة في قاعدة نفي الضرر.

و هي عدم انطباق الحكم بنفي الضرر على الأمر بقلع العذق في رواية سمرة، فقال (قدس سره): «و في هذه القصة إشكال من حيث حكم النبي صلى اللّٰه عليه و آله بقلع العذق مع ان القواعد لا تقتضيه، و نفي الضرر لا يوجب ذلك، لكن لا يخل بالاستدلال» «1».

و تحقيق الكلام في ذلك: ان محصل الإشكال في رواية قصة سمرة- و هي عمدة الروايات- هو: ان الأمر المستتبع للضرر في الواقعة هو دخول سمرة في البستان من دون استئذان من الأنصاري، لأنه يلزم منه الاشراف على عرضه و هو ضرر عليه، فالحكم المستتبع للضرر هو جواز الدخول بدون إذن، أو سلطنته على الدخول بلا إذن لو قيل بجعل السلطنة.

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. رسالة في قاعدة نفي الضرر- 372- المطبوعة ضمن المكاسب.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 422

و من الواضح إن نفي الضرر لم يجعل في الرواية علة لحرمة الدخول بدون إذن و وجوب الاستئذان عند الدخول، بل جعل

علة للأمر بالقلع و هو لا يرتبط بنفي الضرر كما عرفت، إذ ليس في بقاء العذق ضرر، بل الضرر ينشأ من الدخول بلا إذن، فأي ربط للأمر بالقلع بنفي للضرر و الضرار الوارد في الحديث؟.

و قد أجاب المحقق النائيني رحمه اللّه عن هذا الإشكال بوجهين:

الأول: ان قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا ضرر» ليس علة لقلع العذق، بل هو علة لوجوب الاستئذان عند الدخول، و الأمر بقلع العذق كان مترتبا على إصرار سمرة على إيقاع الضرر على الأنصاري و عدم اهتمامه بأمر النبي صلى اللّٰه عليه و آله، لأنه بذلك أسقط احترام ماله فأمر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقلع العذق من باب الولاية حسما للفساد.

الثاني: و قد أطال فيه، و محصله: انه يمكن ان يفرض كون نفي الضرر علة لقلع العذق. ببيان: ان حديث نفي الضرر حاكم على قاعدة السلطنة التي يتفرع عليها احترام مال المسلم الّذي هو عبارة عن سلطنته على منع غيره عن التصرف في ماله، فإذا تكفلت القاعدة نفي السلطنة فقد جاز قلع العذق لعدم احترام ماله حينئذ.

و قد نفي دعوى كون السلطنة ذات جزءين، وجودي، و هو سلطنته على التصرف في ماله. و عدمي، و هو سلطنته على منع غيره من التصرف في ماله.

و الضرر الوارد على الأنصاري انما هو بملاحظة الجزء الوجوديّ لا السلبي، فغاية ما ترفعه قاعدة: «لا ضرر» هو الجزء الوجوديّ، و أما سقوط احترام ماله رأسا فلا وجه له، و لذا لا إشكال في جواز بيعه و هبته. نفي هذه الدعوى: بأن التركب المدعى تحليل عقلي. و الضرر و ان نشأ من الدخول بلا استئذان، إلا انه حيث كان متفرعا على

إبقاء نخلته في البستان فالضرر ينتهي إليه لأنه علة العلل،

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 423

فيرتفع حق الإبقاء بمقتضى نفي الضرر.

و ليس التفرع هاهنا نظير تفرع اللزوم على الصحة، كي يورد: بان الضرر الناشئ من اللزوم انما يرفع خصوص اللزوم دون الصحة، إذ التفرع في باب اللزوم و الصحة لا يراد به إلا مجرد الطولية في الرتبة، و إلا فهما حكمان مستقلان.

و أما التفرع هاهنا بين جواز الدخول و حق بقاء النخلة، فهو من قبيل تفرع وجوب المقدمة عن وجوب ذيها، يكون تفرعا تكوينيا بحيث يعد الفرع من آثار الأصل، فالضرر في الحقيقة ينتهي إلى الإبقاء، فيرتفع الحق فيه بقاعدة: «لا ضرر». هذا خلاصة ما أفاده (قدس سره) «1».

و لكن في كلا الوجهين منع:

أما الأول: فهو انما يمكن تأتيه في رواية ابن مسكان، فقد ورد الأمر بالقلع فيها بعد بيان: «لا ضرر»، فيمكن ان يقال: ان الأمر بالقلع حكم مستقل لا من باب نفي الضرر إذ لم يطبق عليه نفي الضرر بل من باب آخر. و لكن رواية ابن مسكان ضعيفة السند كما عرفت فلا يعتمد عليها.

و إنما الرواية المعتمدة هي رواية ابن بكير. و قد ورد فيها الأمر بالقلع ثم علله بنفي الضرر بقوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: «فانه لا ضرر و لا ضرار».

و هي ظاهرة في كون التعليل للأمر بالقلع، و ليس في الرواية للحكم بتحريم الدخول عليه بلا استئذان عين و لا أثر كي يقال إن التعليل راجع إليه- و لو بارتكاب خلاف الظاهر-. كما انه لو كان الحكم بتأديب من فعل محرما أمرا ارتكازيا في الإذن، أمكن ان يقال إن قوله: «فانه لا ضرر» تعليل للتأديب الحاصل

من النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم. ببيان صغراه و هو ارتكابه محرما و هو الإضرار بالغير، فكأنه قال: «تقلع نخلته لأجل التأديب بعد فعله المحرم و هو

______________________________

(1) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر- 209- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 424

الإضرار بالغير»، نظير ما يقال: «يجوز تقليد زيد لأنه أعلم»، فانه ظاهر في كون تقليد الأعلم أمرا ارتكازيا فيعلل به جواز تقليد زيد.

و لكن الأمر ليس كذلك، إذ لم يسبق ارتكاز في الأذهان لثبوت تأديب كل شخص يرتكب المحرم.

و بالجملة: لم يظهر من الرواية و لا بنحو الإشارة إلى كون المنظور في التعليل هو حرمة الدخول بغير الاذن، فمن أين نستفيد منها رفع الحكم الضرري؟.

و أما الثاني: فمع الغض عن بعض خصوصيات كلامه و التسليم بأن الإبقاء ضرري، باعتبار انه علة العلل. فغاية ما يقتضيه هو ارتفاع حق الإبقاء لا حرمة التصرف في ملك الغير، لأنه ليس مقتضى ارتفاع حق الإبقاء جواز تصرف كل أحد في المال، بل لا بد من رفع الأمر إلى الحاكم فيأمره بالقلع بنفسه، فإذا امتنع جاز ان يخوّل غيره من باب ولايته على الممتنع.

و هذا المعنى لم يظهر تحققه من الرواية، بل الظاهر منها هو أمره (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم للأنصاري بالقلع بمجرد إبائه- أي سمرة- عن المعاوضة.

و علله بلا ضرر و لم يأمر سمرة بذلك. و قد عرفت ان ذلك لا ينسجم مع تطبيق «لا ضرر» في نفي حق الإبقاء، إذ ليس للأنصاري التصرف في مال سمرة بمجرد ارتفاع حق الإبقاء.

و الّذي يتحصل: انه لم يظهر لنا وجه تطبيق: «لا ضرر» على الأمر بالقلع بوجه من الوجوه.

و بذلك

تكون الرواية مجملة لدينا، و لا يمكن ان يستفاد منها قاعدة كلية لنفي الحكم المستلزم للضرر، إذ مقتضى ذلك عدم انطباقها على المورد، و تخصيص المورد مستهجن.

و من هذا يظهر النّظر فيما أفاده الشيخ (رحمه اللّٰه) من: ان عدم العلم

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 425

بكيفية الانطباق لا يضر بالاستدلال.

بل ما ذكرناه في تقريب الإشكال يقرّب كونها بيانا لملاك الحكم و حكمته لا بيانا للعلة التي يستفاد منها قاعدة عامة في كل مورد وجدت فيه. فتدبر.

و إذا سقطت هذه الفقرة في رواية قصة سمرة عن قابلية الاستدلال بها سرى الإشكال إلى الفقرة الواردة في غير هذا المورد، لأن التعبير واحد لا اختلاف فيه، فيبعد ان يراد منه معنى مختلف، فيرتفع ظهوره في التعليل في تلك الموارد.

هذا، مع ان في تطبيق: «لا ضرر» في مورد الشفعة بنحو العلية و الكبرى العامة ما لا يخفى. فان ما هو ثابت في باب الشفعة من وجوب البيع على المشتري الثالث، أو ولاية الشريك على تملك الحصة المبيعة- على اختلاف في ذلك بين الفقهاء-، لا يرتبط بنفي الضرر الّذي لا يتكفل سوى النفي كنفي اللزوم لا الإثبات، و المفروض ان ظاهر الرواية هو تطبيق: «لا ضرر» على القضاء بالشفعة.

هذا، مع ان الحكم لا يسري مع تعدد الشركاء و في غير المساكن و الأرضين و بعد القسمة، مع ان الملاك- و هو الضرر- ثابت في الجميع، بل قد يثبت بالنسبة إلى الجوار كما نبهنا عليه سابقا. مضافا إلى ثبوت الشفعة و لو لم يكن ضرر أصلا في الشركة الجديدة. ثم إن في الشفعة خصوصيات لا ترتبط بنفي الضرر بالمرة كما لا يخفى على من لاحظ أحكام الشفعة.

و بالجملة: بملاحظة

مجموع ما ذكرناه يبعد استظهار كون تطبيق: «لا ضرر» في مورد الشفعة من باب العلة و القاعدة العامة، بل يقرب انها ذكرت كتقريب للحكم من باب الملاك و الحكمة، أضف إلى ذلك كله أن الأصحاب في موارد تطبيقها لا يلتزمون بالضرر في كل فرد من افراد مورد التطبيق، كمورد خيار الغبن، فانهم يلتزمون به من باب الضرر مع انهم يلتزمون به مطلقا و لو لم

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 426

يكن شخص المعاملة ضرريا. كما أشار إليه في كلامه.

و هذا يصلح تأييدا- و ان لم يصلح دليلا- لما ذكرناه من قرب كون ذكر «لا ضرر» من باب بيان الحكمة لا ضرب القاعدة العامة، و يتأكد ذلك بملاحظة ان الأقدمين من الأصحاب «قدس سرهم» لم يوردوا تطبيقها في كثير من موارد العبادات و المعاملات، و إنما ذكروها في موارد خاصة.

و جملة القول: ان ملاحظة ما ذكرناه بمجموعه ترفع من النّفس الاطمئنان بكون: «لا ضرر» قاعدة عامة تتكفل نفي الأحكام الضررية في جميع موارد الشريعة، بل قد توجب الاطمئنان بالعدم، و كون ذكرها من باب بيان حكمة التشريع. فلاحظ.

ثم إن الّذي يظهر من نفي الضرر في موارده في النصوص: كون الملحوظ نفي الضرر و الإضرار بين الناس، فتنفى جواز إضرار أحدهم بالآخر.

أما ارتكاب الشخص فعلا يستلزم الإضرار به نفسه، فلا تعرض لها إليه، و لذا لم يفهم الصحابة- جزما- عند ما قال النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم: «لا ضرر و لا ضرار» نفي الضرر المتوجه من قبل الشخص على نفسه، بل المفهوم منها لديهم المنع عن إضرار أحدهم بالآخر.

و على هذا الاستظهار، فلو سلم انها قاعدة عامة كلية، فهي لا تشمل موارد

العبادات كالوضوء و الصوم و الحج و الصلاة و غير ذلك.

كما انه يظهر بذلك ان إنكار كلية القاعدة لا يلزم منه محذور، لأن موارد تطبيقها في المعاملات قليلة، و كثيرا ما يتوفر دليل في الموارد الخاصة يكون بديلا لها و يغني عن الرجوع إليها.

و لعل ما أوضحناه هو الوجه في عدم معاملة القدماء مع: «لا ضرر» معاملة القاعدة الكلية العامة ذات السعة و الشمول بالنحو الّذي حققه المتأخرون.

ثم إنه بملاحظة هذا الاستظهار الأخير يتضح لدينا سر عدم شمول

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 427

القاعدة لموارد الإقدام على الضرر، كالإقدام على المعاملة مع العلم بالغبن، إذ قد عرفت عدم شمولها لغير الإضرار بين الناس.

و قد تمحّل البعض في تعليل عدم شمول القاعدة لمورد الإقدام، فذهب إلى تعليله بأنها قاعدة امتنانية و لا امتنان في نفي الضرر في صورة الإقدام.

و هذا الوجه مما لا دليل عليه، إذ لا ظهور و لا قرينة على ان نفي الضرر بملاك الامتنان بحيث يدور مداره.

نعم، نفي الضرر عموما يكون فيه تخفيف و منّة على العباد، و لكن هذا غير كون النفي بملاك الامتنان، فلاحظ و لا تغفل.

هذا تمام الكلام فيما يستفاد من النصوص في معنى الهيئة التركيبية.

و قد عرفت عدم استفادة قاعدة عامة منها.

و على تقدير الالتزام بكون مؤداها قاعدة عامة تتكفل نفي الحكم المستلزم للضرر و تحريم الضرر يقع الكلام في أمور تتعلق بالقاعدة ذكرت بعنوان

تنبيهات:

التنبيه الأول

: في بيان طريقة الجمع بين القاعدة و أدلة الأحكام الشاملة بعمومها أو بإطلاقها مورد الضرر. بيان ذلك: ان نسبة هذه القاعدة مع دليل كل حكم نسبة العموم من وجه، فمثلا دليل لزوم البيع يدل على لزومه مطلقا في مورد الضرر

و مورد عدم الضرر، و قاعدة: «لا ضرر» تنفي الحكم الضرري سواء كان هو اللزوم أو غيره.

و مقتضى القواعد في تعارض العامين من وجه هو تساقطهما في مورد الاجتماع. و لكن الملتزم به في ما نحن فيه هو العمل بما يوافق قاعدة نفي الضرر.

و قد ذكر في توجيه ذلك وجوه يجمعها العمل على طبق قاعدة: «لا ضرر»، و إن لم يكن عملا بنفس دليل: «لا ضرر». و إليك بيانها:

الأول: ان مقتضى تعارض دليل القاعدة مع أدلة الأحكام و عدم المرجح

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 428

لأحدهما هو تساقطهما في المجمع، فيرجع إلى الأصول العملية، و هي غالبا توافق مؤدى نفي الضرر، لجريان أصالة البراءة في موارد الأحكام التكليفية الضررية، و جريان أصالة الفساد في موارد الأحكام الوضعيّة الضررية.

الثاني: ان دليل القاعدة بما انه يتكفل نفي جميع الأحكام الضررية، فتلحظ جميع أدلة الأحكام بمنزلة دليل واحد و نسبة دليل نفي الضرر إليه نسبة الخاصّ إلى العام فيخصص جميع الأدلة.

الثالث: ان نسبة دليل نفي الضرر إلى دليل كل حكم و إن كانت هي العموم من وجه، إلا انه يتعين تقديم دليل نفي الضرر، لأن تقديم أدلة الأحكام على دليل نفي الضرر يستلزم إلغاءه بالمرة، لعدم مورد له أصلا، و تقديم بعضها خاصة ترجيح بلا مرجح لأن نسبتها إليه على حد سواء. بخلاف تقديم دليل نفي الضرر، فانه لا يستلزم إلغاء أدلة الأحكام لشمولها لموارد عدم الضرر.

و قد تقرر في محله انه إذا دار الأمر بين العامين من وجه و كان العمل بأحدهما مستلزما لطرح الآخر بالمرة كان الآخر هو المقدّم و يرجّح علي غيره.

الرابع: ان دليل نفي الضرر حاكم على أدلة الأحكام، فيقدّم عليها، و

لا تلاحظ النسبة بين الحاكم و المحكوم. و هذا الوجه بنى عليه الشيخ (رحمه اللّٰه) «1».

الخامس: ان العرف يجمع بين كل دليلين يتكفل أحدهما بيان الحكم الثابت للأشياء بعناوينها الأولية، و يتكفل الآخر بيان الحكم الثابت للأشياء بعناوينها الثانوية، بحمل الأول على بيان الحكم الاقتضائي و الثاني على بيان الحكم الفعلي.

و بما ان دليل نفي الضرر يتكفل بيان الحكم لعنوان ثانوي، فيجمع العرف بينه و بين أدلة الأحكام الأولية بحمله على بيان الحكم الفعلي و حمل أدلة

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول- 315- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 429

الأحكام على بيان الحكم الاقتضائي.

و هذا ما بنى عليه صاحب الكفاية في دليل: «لا ضرر» و نحوه كدليل نفى الحرج، و اصطلح عليه بالتوفيق العرفي «1».

هذه زبدة الوجوه المذكورة في هذا المقام.

أما الأول: فهو فرع تحقق التعارض بنحو لا يمكن الجمع بينهما، فهو في طول سائر الوجوه و سيتضح لك ان النوبة لا تصل إليه.

و أما الثاني: فهو لا وجه له، إذ لا مجال لملاحظة جميع الأدلة دليلا واحدا، بعد ان كانت الأحكام مبيّنة بأدلة مستقلة، و مجرد الملاحظة لا يصيرها دليلا واحدا كي تتغير النسبة.

و أما الثالث: فهو وجه متين يلتزم بنظائره في موارد متعددة من الفقه.

و يمكن تصويره بنحو أكثر صناعة و أبعد عما يدور حوله من إشكال، بأن يقال: إنه بعد الجزم بصدور: «لا ضرر» و إرادة نفي الضرر في الجملة بنحو تكون:

«لا ضرر» نصا في بعض الموارد على نحو الإجمال.

و هذا ينافي إطلاق أدلة الأحكام و عمومها، و يكون العمل بأدلة الأحكام موجبا لطرح ما يكون دليل: «لا ضرر» نصا فيه لا مجرد ظهوره فيه، لأنها نصّ في

بعض الموارد بنحو الموجبة الجزئية، و مقتضى ذلك حصول العلم الإجمالي بتقييد و تخصيص بعضها، فلا يمكن العمل بكل واحد منها لعدم جريان أصالة العموم بعدم العلم الإجمالي بتخصيص البعض، فتسقط أصالة العموم في الجميع.

و لكن لا يخفى عليك ان هذا الوجه إنما تصل النوبة إليه بعد عدم إمكان الجمع العرفي بين دليل نفي الضرر و أدلة الأحكام، إما بنحو الحكومة أو بنحو التوفيق العرفي الّذي يبني عليه صاحب الكفاية، لأنه فرع المعارضة.

______________________________

(1) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول- 382- طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 430

و إلا فمع إمكان الجمع عرفا و إمكان الأخذ بعموم دليل نفي الضرر في حد نفسه، لا تصل النوبة إلى هذا الوجه و ان كان وجيها في نفسه.

فالعمدة إذن تحقيق الوجهين الأخيرين.

أما الرابع: و هو دعوى الحكومة، فقد عرفت تبني الشيخ لها. و قد ناقشه صاحب الكفاية: بأن الحكومة تتوقف على كون الدليل الحاكم بصدد التعرض لحال الدليل المحكوم.

و دليل نفي الضرر لا نظر له إلى أدلة الأحكام و لا تعرض له إلى حالها، بل يتكفل بيان ما هو الواقع من نفي الضرر، و هذا المقدار لا يصحح الحكومة، بل هو كسائر أدلة الأحكام «1».

و قد ردّه المحقق النائيني- بعد أن فهم من كلامه تخصيص الدليل الحاكم بما يكون متعرضا للدليل المحكوم بالمدلول اللفظي المطابقي، نظير أن يقول:

أعني، أو أردت بذلك الدليل كذا، و نحو ذلك. و قد تأملنا في صحة هذه النسبة إلى صاحب الكفاية في أول مباحث التعادل و الترجيح- بتصوير الحكومة و انطباق ضابطها على المورد.

و البحث في ضابط الحكومة بتفصيل يأتي الكلام فيه في مجال آخر.

و لكن نتعرض

له هاهنا بنحو الإجمال و نوكل تحقيقه التفصيليّ إلى مجاله.

و الأولى التعرض إلى ما ذكره المحقق النائيني هاهنا، ثم نعقبه بما نراه صوابا. فنقول: ذكر (قدس سره): ان القرينة على قسمين: قرينة المجاز و قرينة التخصيص و التقييد. و الفرق بينهما ان قرينة المجاز تكون بيانا للمراد الاستعمالي من اللفظ، و تبيّن المدلول التصديقي للفظ، نظير لفظ: «يرمي» في قول القائل:

«جاء أسد يرمي»، فانه يكون بيانا لكون المراد من: «أسد» هو الرّجل الشجاع.

______________________________

(1) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول- 382- طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 431

و أما قرينة التخصيص، فهي ليست بيانا للمراد الاستعمالي، بل هي بيان للمراد الواقعي الجدي، فتكون مبيّنة لما هو موضوع الحكم واقعا، و ان عنوان العام ليس تمام الموضوع بل جزؤه.

و بعد أن ذكر ذلك بعنوان المقدمة، أفاد (قدس سره): أن الحكومة بنظر الشيخ (رحمه اللّٰه) لا تختص بما إذا كان الحاكم من قبيل قرينة المجاز مبيّنا للمراد الاستعمالي من المحكوم، بان يتكفل الحاكم التفسير للدليل المحكوم بمثل كلمة:

«أعني» أو: «أي» أو: «مرادي كذا» و نحو ذلك، بل هي بنظره ان يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضا للدليل الآخر.

و هذا أعم من كون التعرض للدليل الآخر بالنصوصية بمثل كلمة:

«أعني»، أو التعرض للمراد الواقعي للدليل الآخر بظهور الحال أو السياق بنحو يفهم كون النّظر في هذا الدليل للدليل الآخر، نظير ان يرد دليل يتكفل الحكم على موضوع عام، ثم يأتي دليل آخر يتكفل إخراج بعض افراد الموضوع عنه، أو يتكفل إثبات عنوان العام لفرد خارج عنه واقعا، مثلا يأتي دليل يتكفل إثبات وجوب الإكرام لكل عالم، ثم يأتي دليل يقول: «ان زيدا ليس

بعالم» و هو عالم واقعا، و يكون المنظور فيه نفي حكم العام عنه، فيتكفل هذا الدليل تضييق موضوع حكم العام، فيشترك مع التخصيص في الأثر و في كونه بيانا للمراد الواقعي، إلا ان الفرق بينه و بين التخصيص، هو ان في التخصيص لا يكون في اللفظ إشعار بالحكم الثابت للعام بحيث لا يفهم بحسب المدلول اللفظي انه متعرض لحال دليل آخر، نظير قوله في المثال المتقدم: «لا تكرم زيدا» فانه لا تعرض له بحسب المدلول لحكم العام، و لذا يتم هذا الكلام و لو لم يكن هناك دليل عام أصلا.

نعم، بعد العلم بصدور العام و المفروغية عن عدم جواز صدور حكمين متنافيين من العاقل الملتفت، يحكم العقل بملاحظة أظهرية الخاصّ أو نصوصيته

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 432

بعدم إرادة هذا الفرد الخاصّ من العموم، فيكون الخاصّ بيانا للمراد الواقعي من الدليل العام، لكن بحكم العقل و من باب الجمع بين الدليلين.

و هذا بخلاف الدليل الحاكم، فان بيانيته بمدلوله اللفظي لا بتوسط حكم العقل، بحيث يفهم من مدلوله اللفظي انه بيان لحال دليل آخر فيضيق دائرته أو يوسّعها.

و لأجل ذلك كان الدليل الحاكم متفرعا على الدليل المحكوم، فيتوقف على ورود المحكوم أولا ثم يرد الحاكم. بخلاف الخاصّ فانه لا يتفرع على ثبوت حكم العام أصلا كما عرفت.

ثم ذكر: ان الحكومة على أقسام:

فمنها: ما يتعرض لموضوع المحكوم، كما إذا قيل: «زيد ليس بعالم» بعد قوله: «أكرم العلماء».

و منها: ما يتعرض لمتعلق الحكم الثابت في المحكوم، كما لو قيل ان الإكرام ليس بالضيافة.

و منها: ما يتعرض لنفس الحكم، كما لو قيل: «ان وجوب الإكرام ليس في مورد زيد».

ثم ذكر أن الوجه في تقدم الحاكم على المحكوم

هو انه لا تعارض بين الدليلين أصلا، لأن الدليل المحكوم يتكفل الحكم على تقدير ثبوت الموضوع، فلا تعرض له لثبوت ذلك التقدير و عدمه، و الدليل الحاكم يتكفل هدم تقدير ثبوت الموضوع و بيان عدم تحققه، و في مثله لا تنافي أصلا بين الدليلين.

و على هذا الأساس صحّح الترتب بين الأمر بالضدين، ببيان عدم المنافاة بين تعلق الأمر بالأهم مطلقا و تعلق الأمر بالمهم على تقدير عصيان الأهم، فان امتثال الأمر بالأهم يدعو إلى هدم موضوع الأمر المهم، فلا يصادمه و لا ينافيه، بل هو كالحاكم بالنسبة إلى الدليل المحكوم.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 433

و بعد هذا البيان ذكر أن دليل نفي الضرر يكون حاكما على أدلة الأحكام الواقعية الأولية، سواء قلنا بمقالة صاحب الكفاية من تكفله نفى الحكم بنفي الموضوع. أو قلنا بمقالة الشيخ من تكفله نفي الحكم الضرري. لأنها ناظرة إلى أدلة الأحكام الواقعية على كلا المسلكين، و انما الفرق انها على مسلك صاحب الكفاية تكون شارحة لموضوع الأحكام. و على مسلك الشيخ تكون شارحة لأصل الحكم.

هذا ما أفاده (قدس سره) نقلناه مع توضيح و تلخيص «1».

و الكلام معه في مقامين:

المقام الأول: في ضابط الحكومة و بيان حكومة دليل نفي الضرر على أدلة الأحكام.

أما ضابط الحكومة، فقد أسهبنا القول فيه في غير هذا المقام. و الّذي نختاره يتعارض مع ما ذكره (قدس سره).

و مجمله: ان يكون الدليل الحاكم متعرضا و ناظرا بمدلوله اللفظي للدليل المحكوم، سواء كان تعرضه بالتفسير و الدلالة المطابقية، كما إذا تكفل التفسير بمثل كلمة: «أعني». أو كان تعرضه بالظهور السياقي و نحوه، نظير قوله: «لا شك لكثير الشك» بالنسبة إلى أدلة أحكام الشك. و لا يختلف الحال

فيه بين ان يكون متعرضا للموضوع فيضيقه أو يوسعه، و بين أن يكون متعرضا للحكم مباشرة، نظير أدلة نفي الحرج المتكفلة لنفي الأحكام الحجية.

و من هنا كان الدليل الحاكم متفرعا على الدليل المحكوم، بحيث يكون الحاكم لغوا بدون المحكوم لارتباطه به و نظره إليه.

و اما حكومة دليل نفي الضرر على أدلة الأحكام، فهي تكون واضحة بعد

______________________________

(1) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر- 213- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 434

بيان هذا الضابط للحكومة، بناء على مختار الشيخ و مختار صاحب الكفاية.

إذ هي على مختار الشيخ تكون ناظرة إلى نفي الأحكام المستلزمة للضرر، فتكون متفرعة عن أدلة الأحكام الأولية. كما أنها على مختار صاحب الكفاية تكون موجبة للتصرف في موضوع أدلة الأحكام الأولية بإخراج الموضوع عنها.

و منه اتضح حكومتها على مختارنا في مدلولها من تكفلها نفي الضرر حقيقة، و نظرها الأصلي إلى نفي الحكم أو إثبات التحريم. فلاحظ.

و أما على المسلك القائل بان مفادها النهي عن الضرر فقط، فلا تستلزم الحكومة، و سيأتي البحث فيه إن شاء اللّٰه تعالى عند التعرض لمورد تعارض دليل نفي الضرر مع دليل يتكفل الحكم بالعنوان الثانوي كدليل نفي الحرج، و مورد تعارض الضررين. فانتظر.

المقام الثاني: في بيان بعض المؤاخذات على كلامه (قدس سره). و هي عديدة:

الأولى: فيما أفاده من ان بيانية الخاصّ للعام بحكم العقل، بحيث يكون تقدمه عليه بحكم العقل بعد ملاحظته التنافي بين الحكمين. فانه يرد عليه.

أولا: انه لا دخل للعقل في تقديم أحد الدليلين على الآخر، و ليس ذلك من مهماته، فهل يختار العقل تقديم الخاصّ و لا يختار تقديم العام؟.

و ثانيا: انه التزم في مبحث التعادل و الترجيح ان الخاصّ مقدم

على العام بالقرينية و مقتضاه عدم ملاحظة أقوائية ظهور الخاصّ، بل يقدّم الخاصّ و لو لم يكن ظهوره أقوى من ظهور العام بل كان أضعف، نظير تقديم ظهور: «يرمي» في رمي النبل على ظهور: «أسد» في الحيوان المفترس، لأجل أنه قرينة، و لو كان ظهوره في معناه أضعف من ظهور أسد في معناه.

و ما التزم به هناك مناف لما أفاده هاهنا من تقدم الخاصّ بحكم العقل أو بالأظهرية، فلاحظ.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 435

الثانية: فيما أفاده من لزوم تأخر الدليل الحاكم عن الدليل المحكوم زمانا.

فانه يرد عليه: ان الضابط الّذي تقدم بيانه للحكومة و إن اقتضى تفرع الحاكم على المحكوم. لكنه لا يقتضي تفرعه عليه تفرع المعلول عن العلة و المسبب عن السبب كي لا يصح تقدمه زمانا، بل انما يقتضي كون الحاكم من شئون الدليل المحكوم و توابعه، و هذا لا ينافي تأخر المحكوم وجودا.

نعم، غاية ما يلزم هو ثبوت المحكوم و تحققه و لو في زمان متأخر، إذ من الممكن ان يكون الشي ء من توابع شي ء آخر مع تقدمه زمانا، كتهيئة الطعام للضيف قبل الظهر مع انه من شئون مجيئه للدار المتأخر زمانا. فتدبر.

الثالثة: فيما أفاده في وجه تقدم الحاكم على المحكوم من عدم المعارضة بينهما. فانه يرد عليه:

أولا: ان الدليل الّذي يتكفل هدم موضوع الدليل الآخر، انما لا ينافيه إذا كان تصرفه فيه تكوينيا، نظير تصرف الأمر بالأهم في موضوع الأمر بالمهم في باب الترتب، لا ما إذا كان تصرفه فيه تعبديا، لأن مرجع النفي التعبدي للموضوع إلى نفي الحكم نفسه، فيتنافى مع دليل إثبات الحكم لذلك الفرد، و الدليل الحاكم كذلك، لأنه يتكفل نفي الموضوع تعبدا و تنزيلا لا

حقيقة.

و ثانيا: ان الدليل الحاكم لا ينحصر فيما يتكفل نفي الموضوع، بل من الأدلة الحاكمة ما يتكفل نفي الحكم مباشرة، بل قد جعله (قدس سره) من أوضح افراد الحكومة.

و مثل هذا الدليل يصادم الدليل المحكوم في مدلوله و ينافيه. فما أفاده (قدس سره) لا يمكن الاعتماد عليه.

و الّذي ينبغي ان يقال في وجه تقديم الحاكم على المحكوم، هو: ان تقدمه عليه للقرينية، إذ بعد ثبوت نظره للدليل المحكوم و تعرضه له يعدّ عرفا قرينة

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 436

على تشخيص المراد بالمحكوم.

و بالجملة: انه لا إشكال في كون الدليل المتكفل لتفسير الدليل الآخر بكلمة: «أعني» و نحوها، يكون مقدما على الدليل الآخر عرفا لقرينيته عليه، و لا يرى العرف أي تناف بينهما و لا حيرة في الجمع بينهما.

و مثل هذا الدليل الّذي يكون ناظرا إلى الدليل الآخر بدون كلمة التفسير، لأنه أيضا يعدّ قرينة عرفا. فكلا نحوي الحاكم يكون مقدما بملاك القرينية. غاية الأمر أن قرينية النحو الأول بالنص و قرينية النحو الثاني بالظهور، و هو لا يكون فرقا فارقا، فتدبر. هذا تمام الكلام في الحكومة.

و أما الخامس: و هو دعوى التوفيق العرفي التي بنى عليها صاحب الكفاية. فتوضيح ما أفاده (قدس سره): انه ذكر ان دليل نفي الضرر انما يتكفل في حال الضرر نفي الحكم الثابت للفعل بعنوانه الضرر، و ذلك لأن ظاهر دليل نفي الضرر كون الضرر علة للنفي و مانعا من ثبوت الحكم المنفي، فلا يمكن ان يشمل الموارد التي يكون الضرر مقتضيا لثبوت الحكم، إذ المقتضي للحكم يمتنع ان يكون مانعا عنه.

و من هذا البيان انتقل إلى تقدّم دليل نفي الضرر على أدلة الأحكام بلا ملاحظة النسبة بينهما،

إذ بعد استظهار العرف من دليل نفي الضرر كون الضرر مانعا من ثبوت الحكم و أنه يرتفع بالضرر، يوفّق بين الدليلين بحمل الأدلة الأولية على بيان الحكم الاقتضائي و ان الضرر مانع عن فعلية الحكم.

ثم قال بعد كلام له: «هذا، و لو لم نقل بحكومة دليله على دليله لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله كما قيل» و يمكن أن يرجع قوله: «كما قيل» إلى نفي الحكومة، و انه ليس، امرا تفردنا به بل قيل به. كما يمكن ان يرجع إلى نفس الحكومة، و هي المنفي، فيكون إشارة إلى دعوى الشيخ (رحمه اللّٰه)، و الأمر سهل.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 437

و كيف ما كان فما أفاده (قدس سره) في بيان تقدم دليل نفي الضرر على أدلة الأحكام الأولية يبتني على كون المستفاد من دليل نفي الضرر ان الضرر مانع من ثبوت الأحكام، فتكون مرتفعة بثبوته لوجود المانع.

و لا يخفى عليك ان ما أفاده (قدس سره) يرجع في الحقيقة إلى دعوى نظر دليل نفي الضرر إلى أدلة الأحكام و تعرضه لها، فينطبق عليه تعريف الحكومة على رأي الشيخ، فيتقدم دليل نفي الضرر بهذا البيان بالحكومة.

نعم، لما كان (قدس سره) لا يلتزم بان الحكومة هي مطلق النّظر، بل هي النّظر بالشرح و التفسير المطابقي، مثل ان يقول: «أعني» لم يعلّل التقدّم هاهنا بالحكومة بل علّله بالتوفيق العرفي.

فهو في ملاك التقديم يشترك مع الشيخ (رحمه اللّٰه) و لكنه يختلف معه في عنوان التقدّم، فالاختلاف بينهما لفظي اصطلاحي، و لا مشاحة في الاصطلاح.

هذا فيما يرجع إلى جهة السلب في كلامه- أعني: تكفل دليل نفي الضرر نفي الأحكام الأولية و عدم ثبوتها-.

و أما ما يرجع إلى جهة الإيجاب و هي

حمل العرف لأدلة الأحكام الأولية علي بيان الحكم الاقتضائي في مورد الضرر.

فقد وقعت مورد النقض و الإبرام ممن تأخر عنه، و بحث في معقولية الحكم الاقتضائي و ما المراد منه؟. و في مقدّمة من تعرض لذلك بإسهاب المحقق الأصفهاني (رحمه اللّٰه) «1».

و بما انه لا أثر عمليا للبحث في ذلك فعلا فالأولى ترك التعرض له إلى مجال آخر.

و الخلاصة: هي ان أدلة نفي الضرر حاكمة على أدلة الأحكام الأولية بناء

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 2- 324- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 438

على تكفلها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع الضرري، أو تكفلها نفي الحكم المستلزم للضرر.

و أما دعوى التوفيق العرفي، فهي في واقعها و لبّها ترجع إلى دعوى الحكومة بحسب مصطلح الشيخ (رحمه اللّٰه) و انما الاختلاف اصطلاحي.

ثم ان ما أفاده صاحب الكفاية في وجه التقدم من ظهور دليل نفي الضرر في مانعية الضرر، انما هو متفرع على ما استفاده من كون الحديث متكفلا لنفي الحكم بلسان نفي موضوعه.

و لا يتأتى على سائر الأقوال في مفاد حديث نفي الضرر، إذ لا ظهور في نفي الحكم المستلزم للضرر في كونه مانعا من الحكم و علة للنفي، إذ لم يؤخذ الضرر في موضوع النفي كي يستظهر عليته له، كما هو الحال على مسلك صاحب الكفاية. فانتبه و لا تغفل و اللّٰه سبحانه العالم.

التنبيه الثاني

: في ان الضرر المنفي بحديث نفي الضرر هل يراد به الضرر الواقعي، سواء علم به المتضرر أم لم يعلم، أو يراد به الضرر المعلوم؟.

الّذي ذكره المحقق النائيني (رحمه اللّٰه) في هذا المقام، هو: ان مقتضى وضع الألفاظ للمعاني الواقعية لا المعلومة كون المراد بالضرر المنفي الضرر الواقعي

لا المعلوم «1».

لكن يظهر من الشيخ (رحمه اللّٰه) في باب الوضوء اشتراط علم المكلف بكون الوضوء ضرريا في جريان دليل نفي الضرر، فلو توضأ و هو يعتقد عدم الضرر فبان الضرر بالوضوء كان وضوءه صحيحا «2».

كما انه يظهر من غير واحد في المعاملة الغبنية اشتراط الجهل بالغبن

______________________________

(1) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر- 215- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. كتاب الطهارة- 151- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 439

في جريان دليل نفي الضرر لإثبات الخيار، فلو علم بالغبن لم يثبت الخيار.

كما انه في غير هذين الموردين سلكوا مسلكا آخر، فجعلوا المدار على الضرر الواقعي علم به أم لم يعلم، و لذا حكموا بأنه ليس للمالك حفر البئر في داره إذ استلزم ضرر الجار و لو لم يعلم الجار بالضرر.

و من هنا يحير الإنسان، و يقع الإشكال في اعتبار العلم بالضرر في مورد الوضوء، و اعتبار الجهل به في مورد البيع الغبني، و عدم اعتبار العلم و لا الجهل في مورد ثالث. هذا ما أفاده المحقق النائيني (رحمه اللّٰه).

ثم إنه تصدى لحل الإشكال في باب الوضوء، و ان أخذ العلم ليس من جهة كون المراد بالضرر هو الضرر المعلوم، كي يتصادم هذا الالتزام مع الالتزام بعدم اعتبار العلم في غير مورد، بل أخذ العلم بالضرر في مورد الوضوء منشؤه وجهان:

الأول: ان قاعدة نفي الضرر قاعدة امتنانية واردة بملاك الامتنان، فلا تجري فيما كان إجراؤها خلاف المنّة، بان استلزم إيجاد كلفة على المكلف.

و هذا هو المانع من إجرائها في مورد الوضوء المتقدم، لأن إجراء حديث نفي الضرر فيه يستلزم الحكم ببطلان وضوئه السابق و صلاته لو فرض أنه صلّى به، فتجب

عليه إعادة الوضوء و الصلاة، و هو إيقاع للمكلف في الكلفة، و هو ينافى التسهيل و الامتنان.

الثاني: ان حديث نفي الضرر انما يرفع الحكم إذا كان موجبا للضرر، بحيث يكون هو الجزء الأخير للعلة التامة للضرر، و فيما نحن فيه ليس الحكم بوجوب الوضوء كذلك، فان الضرر لا يستند إليه، بل منشأ الضرر هو جهل المكلف و اعتقاده عدم الضرر، و لذا لو فرض انتفاء الحكم في الواقع لوقع المكلف في الضرر لجهله بترتبه على الفعل. و بعبارة أخرى: انك قد عرفت ان الحديث يتكفل نفي الحكم بلسان نفي الضرر من باب ان نفي السبب ملازم لنفي

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 440

المسبب، و هذا المعنى لا يتأتى في المورد، لأن نفي الحكم فيه لا يستلزم نفى الضرر، بل المكلف يقع في الضرر على كل حال كان الحكم بالوضوء ثابتا أم لم يكن. إذن فلا يتكفل الحديث نفي الحكم في مثل هذه الصورة.

نعم، لو كان مفاد الحديث نفي الحكم عن الموضوع الضرري، فلا وجه للتقييد بالعلم بالضرر فيما نحن فيه، إذ الوضوء ضرري و يستند إليه الضرر بلا كلام، فينتفي حكمه بمقتضى حديث نفي الضرر. و لكن هذا المذهب غير صحيح كما تقدم.

هذا ما أفاده (قدس سره) في حل الإشكال. و مقتضاه اعتبار الأمرين في عدم وجوب الوضوء، الضرر الواقعي و العلم به، و من هنا قد يتوجه إشكال، و هو:

ان لازم ذلك انه لو اعتقد الضرر و لم يكن ضرر في الواقع لم يسقط عنه وجوب الوضوء، فلو كان صلى عن تيمم لزمه إعادة الصلاة، لعدم انتقال فرضه إلى التيمم. مع ان المشهور عدم وجوب الإعادة، مما يكشف عن كون اعتقاد الضرر

ذا موضوعية بنفسه.

و قد دفع (قدس سره) هذا الإشكال: بان ظاهر عدم الوجدان في الآية الكريمة: فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا ...* «1» هو الأعم من الواقعي و العلمي، و اعتقاد الضرر يدرج المكلف في من لم يجد الماء، إذ المراد من عدم الوجدان عدم التمكن من استعمال الماء، إما لعدم وجوده و إما لعدم القدرة على استعماله لمانع شرعي أو عادي، و لذا لو اعتقد عدم وجود الماء في راحلته و صلى متيمما ثم تبين وجود الماء أفتوا أيضا بصحة الصلاة، و ليس ذلك إلا من باب ان عدم الوجدان أعم من عدم الوجود واقعا أو اعتقادا.

ثم إنه (قدس سره) تعرض لمطلب استطرادي، و هو: انه إذا انقلب

______________________________

(1) سورة النساء، الآية: 43، و سورة المائدة، الآية: 6.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 441

الفرض إلى التيمم كما لو كان الوضوء ضرريا و علم به، فهل يصح وضوءه لو أراد أن يتوضأ أم لا؟. ذهب (قدس سره) إلى عدم صحته، إذ ما يمكن تصحيح الوضوء به إما دعوى اشتمال الوضوء على الملاك. و اما دعوى تعلق الأمر به بنحو الترتب و أما دعوى ان الأمر بالتيمم رخصة لا عزيمة. و إما دعوى ان حديث نفي الضرر يرفع اللزوم لا الجواز. و الجميع باطل.

أما الأول: فلأن مقتضى الحكومة خروج الفرد الضرري عن عموم أدلة المشروعية، فلا يثبت فيه الملاك، لعدم وجود كاشف له.

و أما الثاني: فلما ثبت في محله من عدم جريان الترتب في الواجبين المشروطين بالقدرة شرعا.

و أما الثالث: فلأن التخصيص بلسان الحكومة يكشف عن عدم شمول العام للفرد الخارج، فلا معنى لاحتمال الرخصة.

و أما الرابع: فلان الحكم بسيط لا تركب فيه، فلا معنى لرفع

اللزوم دون الجواز.

و قد ذكر (قدس سره) بعد ذلك: انه لو لا توهم بعض الأعاظم و حكمه بصحة الوضوء الحرجي- لورود نفي الحرج مورد الامتنان فلا يكون الانتقال إلى التيمم عزيمة- لما كان للبحث عن صحة الوضوء في مورد الضرر مجال، و لا فرق بين نفي الحرج و نفي الضرر في ذلك، لاشتراكهما في كونهما حاكمين على أدلة الأحكام.

هذا مجموع ما أفاده (قدس سره) في مسألة الوضوء.

و لنا على كلامه ملاحظات:

الأولى: ان نفي وجوب الوضوء و إيجاب التيمم أجنبي عن حديث نفى الضرر بالمرّة، و لا تصل النوبة إلى تحكيم: «لا ضرر» فيه، كي يقع الكلام في حدود تطبيقها و مورد جريانها.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 442

و الوجه في ذلك: ان المعلوم ضرورة من الأدلة فرض المكلف على قسمين، واجد للماء بمعنى متمكن منه، و فاقد له بمعنى غير متمكن منه. و الأول موضوع وجوب الوضوء. و الثاني موضوع وجوب التيمم. بحيث يعلم انه لا يشرع التيمم أصلا في حق المتمكن، كما لا يشرع الوضوء في حق غير المتمكن.

و عليه، فنقول: إن الضرر الناشئ من استعمال الماء سواء أ كان واقعيا أم معلوما، إما ان يكون مستلزما لصدق عدم التمكن من استعمال الماء فلا يشرع الوضوء لعدم موضوعه، فلا معنى لتحكيم: «لا ضرر» في نفيه، إذ لا وجوب له كي ينفي ب: «لا ضرر». و اما لا يستلزم ذلك، بل يصدق التمكن من استعمال الماء فيشرع الوضوء و لا مجال لنفيه ب: «لا ضرر» و إثبات وجوب التيمم، لما عرفت من ان الواجد موضوع للوضوء مطلقا و لا يكون موضوعا لوجوب التيمم.

و بالجملة: إدراج مسألة التيمم و الوضوء في مصاديق قاعدة نفي الضرر

غير وجيه، إذ لا مجال لتحكيمها في حال من الأحوال.

و بعد ان تعرف هذا، لا يهمنا تحقيق الوجهين اللذين ذكرهما لعدم تطبيق:

«لا ضرر» و مقدار صحتهما، و إن كنا قد أشرنا سابقا إلى عدم صحة الأول منهما.

فراجع.

و أما حلّ الإشكال- بناء على ما سلكناه- فهو بان يقال: انه مع اعتقاد عدم الضرر يصدق التمكن عرفا من استعمال الماء و لو كان مضرا واقعا، فيندرج في موضوع وجوب الوضوء فيكون صحيحا. كما أنه مع اعتقاد الضرر و ليس في الواقع كذلك يكون الوضوء حرجيا، إذ الإقدام على ما يعتقد إضراره حرجي، فيصدق عدم التمكن العرفي، فيصح تيممه و إن لم يكن الماء مضرا له واقعا.

الثانية: ان ما ذكره في مقام حلّ الإشكال الثاني، و هو مورد التيمم مع اعتقاد الضرر بلا ان يكون الوضوء ضرريا واقعا، من ان عدم الوجدان المأخوذ

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 443

في الآية أعم من الواقعي و الاعتقادي، و إن كان تاما بالبيان الّذي عرفته من كون اعتقاد الضرر مستلزما لصدق عدم التمكن من الماء للحرج فيشرع التيمم. إلا انه من المحقق النائيني ليس كما ينبغي، إذ موضوع كلامه تطبيق قاعدة نفي الضرر و عدمه، و ان المأخوذ في الموضوع هو الضرر مع العلم به أو غير ذلك، فنقل الكلام إلى مدلول الآية الكريمة لا يخلو من خلط. و مفاد: «لا ضرر» لا يعيّن مفاد الآية الكريمة كما لا يخفى.

و قد عرفت انه مع العمل بالآية الكريمة و نحوها من الأدلة لا مجال لقاعدة نفي الضرر بالمرة، فانتبه.

الثالثة: و مركزها الجهة الاستطرادية التي أشار إليها، و هي ما لو توضأ مع كون الوضوء ضرريا و كان عالما بذلك، فانه

حكم ببطلان وضوئه لعدم المصحح.

و لكن ما أفاده غير تام على مبناه من الالتزام بان حديث نفي الضرر وارد مورد الامتنان و بملاكه، و ذلك لأن مقتضى كون رفع التكليف امتنانا و إرفاقا هو ثبوت الملاك للحكم، و انما لم يجعله المولى امتنانا على عبده، إذ لو لم يكن للحكم ملاك، فعدم جعله يكون لعدم ملاكه لا لأجل الامتنان، فلا منّة في رفعه حينئذ. إذن فكونه في مقام الامتنان قرينة على ثبوت الملاك، فيمكن تصحيح العمل بذلك.

نعم، ما أفاده يتم على ما اخترناه من عدم ظهور كون الرفع بملاك الامتنان و الإرفاق، و إن كان رفع الحكم بنفسه إرفاقيا، لكنه غير كونه بملاك الإرفاق. فانتبه.

ثم انه (قدس سره) ذكر في صدر كلامه ثبوت الإشكال في الصوم المضر أيضا، إذ كان معتقدا عدم الضرر فيه، فانهم حكموا بصحة الصوم مع ثبوت الضرر فيه واقعا.

و لا يخفى عليك ان باب الصوم يختلف عن باب الوضوء، إذ ليس لدينا في باب الصوم تكليفان و عملان يبحث في إجزاء أحدهما عن الآخر. فلا يتأتى

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 444

فيه الإشكال الثاني- أعني لو اعتقد الضرر فأفطر و لم يكن في الواقع مضرا-، إذ لا يحتمل إجزاء الإفطار عن الصوم كي يبحث في صحته.

نعم، هو يشترك مع الوضوء في الإشكال الأول. و حلّه بوجوه:

منها: ان المأخوذ في موضوع الصوم خوف الضرر لا نفسه. و من الواضح انه مع اعتقاد عدم الضرر لا خوف في الوقوع في الضرر، فيكون مشروعا.

و منها: ما أشار إليه المحقق النائيني من ورود الحديث مورد الامتنان، و نفى مشروعية الصوم و الحال هذه خلاف المنّة كما لا يخفى. و تحقيق ذلك في محله

في كتاب الصوم. فراجع.

هذا كله فيما يرتبط بأخذ العلم بالضرر في بعض الموارد كالوضوء و الصوم.

و أما ما يرتبط بأخذ الجهل بالضرر، كمورد المعاملة الغبنية التي اعتبر في ثبوت الخيار بمقتضى: «لا ضرر» الجهل بالغبن. فقد تصدى المحقق النائيني إلى حلّ الإشكال فيها، و ان سبب التقييد بالجهل لا يرجع إلى عدم أخذ الضرر الواقعي موضوعا، بل إلى جهة أخرى يقتضيها المقام بالخصوص. و هي: انه إذا وقع المعاملة مع العلم بالغبن و تفاوت الثمن، فقد أقدم على الضرر، و مع اقدامه على الضرر لا يكون الضرر مستندا إلى الحكم الشرعي بنحو يكون هو الجزء الأخير لعلة الضرر، بل يستند الضرر إلى اقدام المشتري، و يكون الحكم الشرعي من المقدمات الإعدادية للضرر، فلا يرتفع بحديث نفي الضرر، لأن ما يرتفع به هو الحكم الّذي يستند إليه الضرر استناد المعلول إلى الجزء الأخير من علته.

و هذا الوجه قابل للمنع، فان الضرر لا يترتب على اقدام المشتري على الشراء، و إنما يترتب على حكم الشارع بعد الإقدام على الشراء، بصحته أو لزومه، فانه مترتب على الإقدام و إيقاع المعاملة، فيكون هو الجزء الأخير لعلة

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 445

الضرر، فيكون مرفوعا بحديث نفي الضرر.

و قد وجّه التفصيل بين صورتي العلم بالغبن و الجهل به: بان الحكم بعدم اللزوم في مورد العلم بالغبن خلاف المنّة و التسهيل.

و فيه: ما أشرنا إليه من عدم ثبوت كون الحديث واردا بملاك الامتنان بنحو يكون علة للنفي يدور مداره وجودا و عدما.

فالصحيح ان يقال في وجه التفصيل هو ما أشرنا إليه في مقام تحقيق معنى الحديث من: أن المستفاد من الحديث هو نفي الضرر الصادر من خصوص الغير، و

مع العلم بالضرر في المعاملة لا يستند الضرر إلى البائع خاصة، كما هو الحال في صورة جهل المشتري، بل يستند إلى كل من البائع و المشتري بنحو الاشتراك، فلا يكون مرفوعا بالحديث «1». فراجع تعرف.

هذا تمام الكلام في هذه الجهة.

و المتحصل: ان الضرر المنفي بحديث: «لا ضرر» هو الضرر الواقعي بلا ان يتقيد بجهل أو بعلم، و إنما يكون الجهل أو العلم دخيلا في تطبيق القاعدة في بعض الموارد لأجل خصوصية في المورد. فالتفت.

يبقى الكلام فيما تعرض له أخيرا من الفروع التي قد يتوهم التنافي بينها بأنفسها أو بين بعضها، و ما ذكره من ان الإقدام على الضرر في التكليفيّات لا يوجب عدم حكومة القاعدة عليها، و في الوضعيات موجب لذلك، و هي:

أولا: لو أقدم على موضوع يترتب عليه حكم ضرري، كمن أجنب نفسه متعمدا مع كون الغسل ضرريا، إن هذا الإقدام لا يوجب عدم جريان قاعدة لا ضرر بالنسبة إلى الغسل. و مثله ما لو شرب دواء يتضرر معه بالصوم، فان الصوم يسقط عنه لأجل الضرر.

______________________________

(1) مقتضى ذلك عدم ثبوت الخيار في صورة جهل البائع أيضا إذ لا يستند الضرر إلى كل منهما (المقرر).

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 446

و ثانيا: ما لو غصب لوحا من شخص و نصبه في سفينته، فانه يقال بجواز نزع مالك اللوح لوحه من السفينة و ان تضرر مالكها بلغ ما بلغ ما لم يؤد إلى تلف نفس محترمة. فالإقدام في هذا الفرع يمنع من جريان: «لا ضرر» في حق الغاصب.

و ثالثا: ما لو استأجر أرضا إلى مدة و بنى فيها بناء أو غرس فيها شجرا يبقى بعد انقضاء زمان الإجارة فانه يقال: ان لمالك الأرض هدم البناء

أو قلع الشجر و إن تضرر به المستأجر.

و قد ذكر (قدس سره) انه لا تنافي بين هذه الفروع و ما تقدم، كما ان هنا فرقا بين الفرع الأول منها و بين الفرعين الأخيرين، و ذلك فان المجنب نفسه أو شارب الدواء لم يكن مكلفا بالغسل و الصوم حال الإجناب و شرب الدواء، بل التكليف بهما بعد الإجناب و شرب الدواء. و من الواضح ان الغسل و الصوم ضرريان، فيكون الضرر مستندا إلى الحكم الشرعي، و الإقدام على الإجناب و شرب الدواء لا ينفي الاستناد المذكور، لأن فعله بمنزلة المقدمة الإعدادية لثبوت الحكم الضرري، و فعله في ظرفه مباح لا ضرر فيه. و أما غاصب اللوح، فهو مأمور قبل النصب بالرد، و لم يكن الرد في حقه ضرريا قبل النصب لكنه بعصيانه و مخالفته التكليف بالرد أقدم على إتلاف ماله، فإقدامه و إرادته هي الجزء الأخير لعلة الضرر، و ليست إرادته واقعة في طريق امتثال الحكم كي يستند الضرر إلى الحكم- كما هو الحال في الغسل و الصوم-، بل هي واقعة في طريق عصيان الحكم و مخالفته، فالضرر يستند إلى إقدامه لا إلى الحكم الشرعي بوجوب الرد. و مثله الكلام في مسألة الغرس في الأرض المستأجرة، فانه مع علمه بعدم استحقاقه للغرس بعد مضي مدة الإجارة، فبغرسه قد أقدم على الضرر، و لا يستند الضرر إلى الحكم الشرعي بل إلى إقدامه.

ثم إنه أضاف في مسألة غصب اللوح و نصبه في السفينة إلى ما ذكره في

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 447

عدم شمول: «لا ضرر» وجهين آخرين:

الأول: ان كسر السفينة ليس ضررا على صاحبها، لأنه مع كون اللوح مغصوبا فصاحب السفينة لا يكون مالكا لتركيب

السفينة، و إذا لم تكن الهيئة الخاصة مملوكة له لم يكن رفعها ضررا عليه، لأن الضرر هو النقص في المال الّذي يملكه، فحال نزع اللوح بعد النصب حال انتزاعه من الغاصب قبل النصب.

الثاني: انه قد دل دليل على انه ليس لعرق ظالم حق «1»، فيدل على عدم ثبوت الحرمة لماله، فلا تشمله القاعدة تخصصا، لأنها انما تنفي الضرر الوارد على المال المحترم.

و قد أطال (قدس سره) في تحقيق الفرق بين هذه الفروع، و لا يهمنا نقل غير ما ذكرناه من كلامه فانه العمدة.

و لكنه لا يخلو عن إشكال، بيان ذلك: ان محل الكلام في مسألة اللوح المغصوب ما إذا كان نزع اللوح يوجب تضرر مالك السفينة بغرق سفينته أو تلف متاعه المحمول عليها لدخول الماء في السفينة. و أما إذا لم يلزم منه سوى خراب نفس هيئة السفينة، كما لو كانت على الأرض، فلا يستشكل أحد في جواز أخذ مالك اللوح لوحه، و انه يجوز له ذلك كما كان يجوز له أخذ لوحه قبل التركيب و النصب.

و بعد ذلك نقول: إنه (قدس سره) ذكر وجوها ثلاثة في عدم جريان: «لا ضرر» في هذا الفرع.

و جميعها محل منع:

أما الأول: و هو دعوى استناد الضرر إلى إقدامه و عصيانه التكليف بالرد الثابت قبل النصب ففيه:

______________________________

(1) وسائل الشيعة 17- 311، حديث: 1.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 448

أولا: ان التكليف بالرد يتعدد بتعدد الأزمنة و ينحل إلى تكاليف متعددة بتعدد الأزمنة، ففي كل آن يكون هناك تكليف بالرد، و لأجل ذلك يتعدد العصيان.

و عليه، فالتكليف بالرد قبل تحقق النصب غير التكليف بالرد بعد تحققه، و هو بالنصب لم يتحقق منه سوى عصيان عن التكليف بالرد السابق، و

هو ليس بضرري.

و أما التكليف بالرد بعد النصب فهو ضرري. و النصب ليس عصيانا له كي يكون إقداما على المخالفة و الضرر، بل الضرر يستند إليه لا إلى إرادة المكلف، بل إرادة المكلف الأول للنصب تكون بمنزلة المقدمة الإعدادية لثبوت الحكم الشرعي بالرد بعد النصب، و هذا التكليف ضرري، إذ إرادة الرد معلولة له و الرد في هذا الحال يستلزم الضرر، فيستند الضرر إلى الحكم لوجوبه.

و بهذا البيان ظهر أنه لا فرق بين هذا المثال و الفرع الأول في كون الإقدام ليس على الضرر و انما هو مقدمة إعدادية لثبوت الحكم الضرري، و ان أساس الفرق كان يبتني على ملاحظة التكليف بالرد تكليفا واحدا، و قد عرفت انه غير صحيح.

و ثانيا: ان الإقدام على الضرر في مثال المثال لا يرفع نسبة الضرر إلى الحكم لأنك قد عرفت في مسألة المعاملة الغبنية، ان الجزء الأخير لعلة الضرر هو الحكم الشرعي، فلا فائدة في الأقدام.

و ثالثا: ان الإقدام على الضرر انما يصدق بحيث يستند الضرر إلى الأقدام لا إلى الحكم، فيما إذا فرض عدم شمول حديث «لا ضرر» لمورد الإقدام، و إلا فلا ضرر كي يقال انه أقدم عليه، و عدم شمول «لا ضرر» يتوقف على ثبوت الإقدام على الضرر بحيث يصح اسناد الضرر إلى الإقدام لا إلى الحكم، و هذا دور واضح.

و بعبارة أخرى: ان الإقدام على الضرر إنما يصدق إذا كان المكلف عالما

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 449

بعدم رفع الحكم الضرري، أما إذا لم يعلم ذلك بل هو أقدم على العمل موطنا نفسه على ما يحكم به الشارع بعد ذلك، فلا يكون ذلك إقداما على الضرر بل هو إقدام على الضرر على

تقدير حكم الشارع عليه لا له، فلا يمكن ان يحكم الشارع عليه استنادا إلى إقدامه على الضرر فانه خلف.

و قد أشار إلى بعض هذا الإشكال المحقق الأصفهاني في بعض كتاباته الفقهية فراجع حاشية المكاسب مبحث خيار الغبن «1».

و أما الوجه الثاني: و هو دعوى ان نزع اللوح من السفينة لا يوجب ضررا على مالكها لعدم ملكيته الهيئة التركيبية الحاصلة من نصب اللوح.

ففيه ما عرفت من: ان محل الكلام ما إذا استلزم النزع ضررا زائدا على فوات الهيئة التركيبية للسفينة.

و أما الوجه الثالث: و هو التمسك بما ورد من انه ليس لعرق ظالم حق، ففيه: ان ذلك يقتضي عدم احترام مال الظالم و الغاصب و المرتبط بنفس المغصوب كأن يوجد عملا في المغصوب، كما لو غصب فضة فصاغها خاتما، فانه لا يحكم بشركته في الخاتم أو بثبوت الأجرة له كما هو الحال لو صاغها غير الغاصب. و لا يقتضي عدم احترام جميع أمواله، لجميع آلات الصياغة، فانه مما لا قائل به و لا يقتضيه الدليل المزبور.

و عليه، فغصب اللوح لا يقتضي عدم احترام الألواح الراجعة إليه أو المال المحمول على السفينة، كي يجوز الإضرار به، فانتبه و لا تغفل.

و الّذي يتحصل: ان ما أفاده (قدس سره) من الوجوه الثلاثة في مسألة اللوح المغصوب غير تام.

و عليه، نقول إذا تم ما يقال من ان الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال، فقد

______________________________

(1) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. حاشية المكاسب 2- 54- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 450

يستظهر منه جواز نزع المالك اللوح و ان أوجب ضررا على الغاصب. و تحقيق ذلك موكول إلى مبحث الغصب من كتب الفقه.

و أما مسألة الغرس الباقي بعد انقضاء مدة الإجارة،

فقد حققنا الكلام فيه بإسهاب في مبحث خيار الغبن في مسألة تصرف الغابن في العين تصرفا موجبا للزيادة. فراجع. و اللّٰه سبحانه العالم.

التنبيه الثالث: في شمول الحديث للأحكام العدمية، كما انه شامل للأحكام الوجودية

. و توضيح ذلك: انه لا إشكال في ان حديث نفي الضرر يوجب التصرف في الأحكام الوجودية فيخصصها بغير مورد الضرر. و إنما الإشكال في شمولها للأحكام العدمية إذا ترتب عليها الضرر. مثال ذلك: ما إذا حبس حرا غير أجير ففات عمله، فان قواعد الضمان لا تشمل مثل ذلك، لعدم كونه إتلاف مال- نعم لو كان المحبوس عبدا أو حرا أجيرا، يكون الحبس إتلافا لمال المالك و المستأجر، فيكون الحابس ضامنا-. و عليه يقال: إن عدم الضمان حكم ضرري لاستلزامه الضرر على الحر لفوات عمله، فهل يشمله حديث نفى الضرر، و مقتضاه ثبوت الضمان و التدارك هاهنا؟. و مثله ما لو كان بقاء الزوجة على الزوجية مضرا بها، و كان الزوج غائبا، فان عدم كون الطلاق بيدها أو بيد الحاكم الشرعي أو عدول المؤمنين يكون ضرريا. و نحوه ما إذا كان العبد تحت الشدة، فيكون عدم عتقه ضرريا. فيقع الكلام في شمول: «لا ضرر» لمثل ذلك، فيقتضي ثبوت حق الطلاق للزوجة أو لغيرها في مثال الزوجة، و ثبوت الحرية للعبد في مثاله.

و قد ذهب المحقق النائيني (رحمه اللّٰه) إلى عدم شمول الحديث للأحكام العدمية، و قد أطال في تحقيق ذلك و الاستدلال عليه، و الّذي يتلخص من كلامه وجوه ثلاثة:

الأول: ان حديث: «لا ضرر» انما يشمل الأحكام المجعولة شرعا، لأنه

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 451

ناظر إلى ما ثبت بالعمومات من الأحكام الشرعية، و عدم الضمان و نحوه من الأمور العدمية ليست أحكاما شرعية مجعولة من قبل الشارع.

و ما يدعى

من: ان العدم حدوثا و ان لم يستند إلى الشارع، لأنه ناش من عدم علة الوجود لا وجود علة العدم إلا انه بقاء يستند إليه، و لذا صح تعلق النهي بمجرد الترك و عدم الفعل بلحاظ ان عدم الفعل بقاء يستند إلى المكلف.

يندفع: بان ذلك و إن كان موجبا للقدرة على العدم و هي المصححة للتكليف، لكن لا يصحح اسناد العدم إلى الشارع ما لم يتعلق به جعل شرعي.

الثاني: ان لازم الالتزام بشمول الحديث للحكم العدمي، ثبوت الضمان في المثال المتقدم، و هذا يعني تكفل الحديث لنفي الضرر غير المتدارك، و هذا المعنى قد تقدم بطلان استفادته من الحديث و توهينه، و أنه أردأ الوجوه.

الثالث: ان لازم الالتزام بعموم الحديث للأحكام العدمية تأسيس فقه جديد، لاستلزامه في مثال الزوجة ثبوت حق الطلاق للحاكم الشرعي و هو مما لا يلتزم به «1».

و هذه الوجوه بأجمعها غير تامة:

أما الأول: فلأنه بعد فرض القدرة على العدم بحيث يكون تحت الاختيار، كيف لا يستند العدم إليه؟، فان نفي استناد العدم إليه و عدم صدوره منه مساوق لنفي القدرة عليه، و هو خلف فرض القدرة على الوجود.

و أما الثاني: فلأن المستهجن هو ان يكون مفهوم الحديث هو نفي الضرر غير المتدارك بهذا المفهوم كما تقدمت الإشارة إليه.

أما ان يكون مفهوم الحديث نفي الحكم الضرري الّذي يتفق في النتيجة و الأثر مع نفي الضرر غير المتدارك، لإثباته التدارك في بعض الموارد، فهذا مما لا

______________________________

(1) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر- 220- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 452

استهجان فيه أصلا. و الّذي يستتبعه الالتزام بعموم الحديث للأحكام العدمية هو ذلك، لا كون معنى الحديث هو نفي

الضرر غير المتدارك، فلا استهجان فيه.

و أما الثالث: فلأن ما جعله مثالا واضحا لتأسيس الفقه الجديد و هو مثال الزوجة، مما يلتزم فيه- أخيرا- بثبوت الحق للحاكم في الطلاق عملا ببعض النصوص «1».

و قد صرح (قدس سره): بالتزام السيد صاحب العروة (رحمه اللّٰه) به «2» محتجا عليه بقاعدة نفي الحرج و نفي الضرر، فكيف يكون الالتزام بثبوت حق الطلاق للحاكم الشرعي من تأسيس فقه جديد؟.

فما أفاده في الاستدلال على عدم شمول الحديث للأحكام العدمية لا نراه تاما سديدا.

و التحقيق: هو صحة ما أفاده من أصل الدعوى، فنحن لا نلتزم بشمول الحديث للأحكام العدمية. و تقريب ذلك: ان استناد الضرر انما يتحقق بالتسبيب إليه و إيجاد ما يستلزمه. و أما عدم إيجاد المانع عن الضرر، فهو لا يحقق اسناد الضرر، فمثلا إذا فعل شخص ما يستلزم ورود الضرر على آخر استند إضراره إليه، و أما إذا رأى ضررا متوجها إلى الآخر و كان قادرا على دفعه فلم يدفعه، لم يستند الضرر إليه أصلا. و عليه فبما ان الضرر المنفي هو الضرر المستند إلى الشارع، فيختص النفي بما إذا كان مترتبا على الحكم الوجوديّ، فانه يصحح اسناد الضرر إلى الشارع. أما المترتب على عدم الحكم، بحيث كان الشارع متمكنا من جعل الحكم الوجوديّ المانع منه، فلا يستند إليه، فلا يتكفل الحديث رفعه. و لا يهمنا بعد ذلك ان يكون عدم الحكم مستندا إلى الشارع أو ليس

______________________________

(1) وسائل الشيعة 15- 389، باب 23.

(2) اليزدي الفقيه السيد محمد كاظم. ملحقات العروة الوثقى 1- 70- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 453

بمستند.

و لا معنى لقياس المورد بمورد استصحاب عدم الحكم، لاختلاف الملاك في الاستصحاب و نفي الضرر.

و

يمكن ان يقرب أيضا: بان مفاد حديث نفي الضرر ليس الا نفى الأحكام المجعولة المستلزمة للضرر، لا انه يجعل ما ينفي الضرر.

و بعبارة أخرى: كأن الشارع يقول: «انا لم أجعل الحكم المستلزم للضرر». و لا يقول: «انا جعلت ما ينفي الضرر» و فرق واضح بين المفادين.

و لا يخفى ان الحكم العدمي و ان استند إلى الشارع بقاء، لكن استناده من باب عدم جعل الوجود لا من باب جعل العدم. إذن فالعدم ليس من المجعولات الشرعية.

كما انه يمكن ان يقال: ان مفاد: «لا ضرر» هو نفي الحكم خاصة، فلا تتكفل إثبات الحكم، فلسانها لسان نفي صرف لا لسان إثبات، و العمدة في هذه التقريبات هو ما ذكرناه أولا. فتدبره.

و أما مسألة الزوجة تحت الضيق مع غياب الزوج أو امتناعه عن الطلاق، فالحكم المستلزم للضرر فيها وجودي لا سلبي عدمي. فان الموجب لوقوع الزوجة في الضيق- بعد المفروغية عن عدم زوال العلقة الزوجية بغير الطلاق- هو حصر حق الطلاق بالزوج، و هو أمر ثبوتي منتزع من جعل حق الطلاق للزوج و عدم جعله لغيره، و قد بيّنه الشارع بمثل: «الطلاق بيد من أخذ بالساق» «1»، و مثله و إن لم يكن حكما مجعولا، إلا انه لما كان منتزعا من الحكمين المجعولين أمكن نفيه شرعا بحديث لا ضرر.

فلو قيل: إنه يلزم منه تأسيس فقه جديد، لم يكن إيرادا على شمول

______________________________

(1) عوالي اللئالي 1- 234، حديث: 137.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 454

الحديث للأحكام العدمية، لأن المنفي أمر وجودي. فتدبر.

ثم انه قد يوجّه عدم شمول الحديث لمورد الحكم العدمي: بأنه قد تقدم ان الحديث لا نظر له إلى الأحكام الواردة مورد الضرر، كالضمان و الحدود و الدّيات.

و بما ان الحكم العدمي في مورده ضرري، كعدم الضمان فانه ضرري على الحر المفوّت عمله. و لم يثبت بإطلاق دليل كي تكون له حالتان، بل ثبت بالإمضاء الثابت في كل مورد بخصوصه، فهو ثابت في مورد الضرر رأسا. و فيه:

أولا: انه ليس مطردا في جميع أمثلة الحكم العدمي. فمثل نفي حق الطلاق لغير الزوج ثابت مطلقا بمثل: «الطلاق بيد من أخذ بالساق». أعم من مورد الضرر و عدمه، فيمكن أن يكون مشمولا لحديث نفي الضرر، بناء على ان المنفي أمر عدمي لا ثبوتي.

و ثانيا: ان الحكم الّذي لا يكون لحديث نفي الضرر نظر إليه هو الحكم الثابت بعنوان الضرر، كقتل النّفس و إعطاء الزكاة و نحوها.

أما الحكم الّذي يثبت في مورد الضرر لا بعنوان الضرر، بل بعنوان آخر يلازم حصول الضرر، فهو خارج عن عموم حديث نفي الضرر بالتخصيص لا بالتخصص.

و عليه، ففي مورد توهم مثل ذلك الحكم يرجع إلى عموم حديث نفى الضرر، كما هو الحال في كل مورد يشك فيه في التخصيص. و الحكم العدمي المتوهم على تقدير ثبوته من قبيل الثاني، إذ لم يثبت بعنوان الضرر، بل بعنوان مستلزم للضرر. فتدبر.

التنبيه الرابع: في كون المراد بالضرر هل الضرر الشخصي أو النوعيّ؟.

و المراد بالضرر النوعيّ إما ما يترتب بالنسبة إلى غالب المكلفين، أو ما يترتب على غالب أفراد الفعل. فتارة يراد به نوع المكلف. و أخرى يراد به نوع الفعل. و على كل فالمراد به ما يقابل الضرر الفعلي الوارد على كل شخص.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 455

و لا يخفى عليك ان المتعين الالتزام بان المراد به هو الضرر الشخصي، لأن الضرر كسائر الألفاظ موضوع للمفاهيم الواقعية، و هو ظاهر في الفعلية دون الاقتضائية أو النوعية. فحين يتكفل الحديث

نفي الضرر عن المكلف، فظاهره نفي الضرر الفعلي الوارد عليه. و لا وجه لحمل الكلام على خلاف ظاهره. و هذا المطلب واضح جدا لا يحتاج إلى مزيد بحث.

و أما استدلال المحقق النائيني (رحمه اللّٰه) على كون المراد هو الضرر الشخصي بورود الحديث مورد الامتنان، و بكونه حاكما على أدلة الأحكام الأولية «1». فلم أعرف وجهه، إذ من الممكن أن يقال: إن الحديث و إن كان واردا مورد الامتنان، لكن الملحوظ هو الامتنان بحسب النوع. كما انه حاكم على أدلة الأحكام إذا ترتب عليها الضرر نوعا.

و بالجملة: الالتزام بإرادة الضرر النوعيّ لا ينافي الالتزام بالحكومة و الامتنان، فتدبر جيدا.

التنبيه الخامس: في تعارض الضررين و ما يتناسب معه من فروع.

ذكر المحقق النائيني (قدس سره) في التنبيه السادس: ان مقتضى ورود الحديث في مقام المنّة عدم وجوب تحمل الإنسان الضرر المتوجه إلى الغير لدفعه عنه، و لا وجوب تدارك الضرر الوارد عليه، بمعنى انه لا يجب رفعه عن الغير كما لا يجب دفعه. و هكذا لا يجوز توجيه الضرر الوارد إليه إلى الغير، فلو توجه سيل إلى داره، فان له دفعه و لا يجوز توجيهه إلى دار غيره، لتعارض الضررين و عدم المرجح لأحدهما على الآخر.

و مقتضى ذلك انه لو دار الأمر بين حكمين ضرريين بحيث يلزم من رفع أحدهما الحكم بثبوت الآخر، هو اختيار أقلهما ضررا، و لا يختلف الحال بالنسبة

______________________________

(1) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر- 222- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 456

إلى شخص واحد أو شخصين، فان المفروض ان نفي الضرر من باب المنة على العباد و لا ميزة لأحد على أحد في هذه الجهة، فان الكل عبيد اللّٰه سبحانه.

فكما يختار الشخص الواحد أخف الضررين لو تعارضا بالنسبة

إليه، كذلك الأمر إذا تعارض الضرران في حق شخصين، فانه مع عدم المرجح يحكم بالتخيير، إذ المورد من موارد تزاحم الحقّين لا من موارد التعارض، كي يحكم بالتساقط و الرجوع إلى سائر القواعد.

إلا ان يدعى الفرق بين توجه الضررين إلى شخص واحد، و بين توجههما إلى شخصين، بأنه ..

إذا توجها إلى شخص واحد يختار أخفهما لو كان و إلا فالتخيير.

و أما إذا توجها إلى شخصين، كالتولي من قبل الجائر الّذي يكون تركه ضررا على المتولي، و الإقدام عليه ضررا على الغير، فلا وجه للترجيح أو التخيير، إذ هو من موارد تحمل الضرر المتوجه إلى الغير، و قد عرفت عدم وجوبه إذ الضرر متوجه أولا و بالذات إلى الغير فلا يجب على المكره دفعه عنه و تحمله.

نعم، لو أكرهه الجائر على دفع مقدار من المال لم يجز له ان ينهب من أموال الناس و يدفع الضرر عن نفسه بذلك، فانه من موارد توجيه الضرر الوارد عليه إلى الغير، و قد عرفت عدم جوازه. و مسألة الولاية من قبل الجائر من قبيل الأول.

و على هذا، فما أفاده الشيخ (رحمه اللّٰه) في المكاسب في مسألة التولي من قبل الجائر من الفرق بين الفرضين هو الصواب «1». لا ما ذكره في رسالته المعمولة لهذه المسألة من لزوم ملاحظة أخف الضررين بالنسبة إلى الشخصين، كالضررين المتوجهين إلى شخص واحد «2».

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. المكاسب- 58- الطبعة الأولى.

(2) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. رسالة في قاعدة لا ضرر- 374- المطبوعة ضمن المكاسب.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 457

نعم، لو أريد من عبارة الرسالة صورة ورود ضرر من السماء يدور أمره بين شخصين، كما إذا أدخلت الدّابّة رأسها في القدر من

دون تفريط أحد المالكين، و دار الأمر بين كسر القدر أو قتل الدّابّة كان حسنا. إذ يمكن الالتزام هاهنا باختيار أقل الضررين.

هذا ما أفاده (قدس سره) في هذا التنبيه مع بعض تلخيص «1».

و كلامه (قدس سره) يبدو مجملا و لا يخلو من ارتباك. و يتضح ذلك بالتعرض لكل فرض من الفروض المزبورة و التكلم فيه على حدة.

الفرض الأول: تحمل الضرر المتوجه إلى الغير لدفعه عنه.

و لا يخفى أنه لا مجال لتحكيم قاعدة: «لا ضرر» في هذا الفرض، لإثبات وجوب تحمل الضرر، لا من جهة ما أفاده (قدس سره) من ورود الحديث مورد المنة فلا يجري في مورد يستلزم منه الضرر، بل من جهة عدم الموضوع لجريانها، و ذلك لأن القاعدة ناظرة- كما عرفت- إلى الأحكام الضررية فتتكفل رفعها.

و من الواضح انه ليس لدينا في هذا الفرض و مع قطع النّظر عن قاعدة:

«لا ضرر» حكم ضرري كي يقال ان رفعه خلاف المنة، إذ الثابت هاهنا انه لا يجب على الإنسان دفع الضرر عن الغير أو رفعه و لو لم ينشأ منه ضرر عليه، فلو رأى ضررا متوجها إلى غيره كسيل متوجه إلى داره يستلزم خرابها، فلا يجب عليه أن يدفع السيل حتى لو لم يستلزم ضررا عليه.

و بعبارة أخرى: ان الثابت فيما نحن فيه ليس الا عدم لزوم دفع الضرر، و هو أمر عدمي، و قد عرفت ان الحديث لا نظر له إلى الأمور العدمية الشرعية.

إذن فلا مورد للقاعدة هاهنا أصلا.

و بالجملة: لم نعرف وجها لإثبات وجوب تحمل الضرر عن الغير بقاعدة:

______________________________

(1) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر- 222- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 458

«لا ضرر» كي يتأتى فيها الكلام الّذي

ذكره المحقق النائيني، فالتفت و لا تغفل.

الفرض الثاني: توجيه الضرر الوارد عليه إلى الغير، كما لو كان السيل بطبعه متوجها إلى داره، فيجعل له سدا يدفعه به إلى دار الغير، أو يدفعه بيده أو بآلة عن داره إلى دار الغير.

و قد عرفت ان المحقق النائيني (قدس سره) ذهب إلى عدم جوازه لتعارض الضررين.

و الّذي نراه: ان المورد ليس من موارد التعارض، فان مورد التعارض هو ما إذا كان لدينا حكمان متنافيان يترتب على كل منهما الضرر، بحيث لا يمكن تطبيق القاعدة بالنسبة إليهما، كمورد إدخال الدّابّة رأسها في القدر الّذي يأتي الكلام فيه إن شاء اللّٰه تعالى عن قريب.

و لا يخفى أنه ليس لدينا فيما نحن فيه حكمان كذلك، بل ليس هنا إلا حكم واحد و هو حرمة توجيه السيل إلى دار الغير من جهة انه إتلاف لماله و إضرار به.

و الّذي نلتزم به في هذا المورد بمقتضى الصناعة هو جواز توجيه السيل إلى دار الغير مع ثبوت الضمان عليه. بيان ذلك: ان حرمة الإتلاف أو إضرار الغير ضررية على الشخص، فترتفع بالقاعدة، فيثبت هاهنا جواز توجيه السيل.

نعم «1» قد يقال: ان حرمة الإتلاف و ان كانت ضررية، إلا ان رفع الحرمة يستلزم الضرر على الغير بإتلاف ماله.

و من المعلوم ان حديث: «لا ضرر» لا يتكفل نفي الحكم في مورد يستلزم النفي الضرر على الغير، إما لأجل الامتنان أو لغير ذلك مما هو ملاك نفى

______________________________

(1) هذا ما أفاده الأستاذ (دام ظله) في مجلس الدرس، لكنه عدل عنه إلى ما ذكرناه أخيرا في قولنا: (لكن نقول).

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 459

الضرر.

و بعبارة أخرى: انه من الواضح ان نفي الضرر انما هو بملاك واقعي

في إعدام الضرر و عدم تحققه، فلا يشمل موردا يستلزم من شموله ترتب الضرر.

نعم مع كون الضرر الواقع على الشخص أكثر من ضرر الغير لم يمنع ضرر الغير من تطبيق القاعدة بلحاظ ضرر الشخص، فيثبت الجواز في خصوص هذه الصورة.

و لكن نقول: إن المفروض أن ضرر الغير المترتب على رفع الحرمة متدارك بالضمان، و التدارك يرفع صدق الضرر- كما تقدم-، و لو لم يرفع صدقه، فمثل هذا الضرر المتدارك لا يمنع من شمول الحديث مع استلزامه له، إذ لا ينافي ملاك رفع الضرر من امتنان أو غيره.

ثم لا يخفى عليك انه لا مجال لرفع الضمان الثابت بالإتلاف بحديث: «لا ضرر» لما أشرنا إليه غير مرة من ان الحديث لا يشمل الحكم الوارد في مورد الضرر كالضمان. إذن فالضمان ثابت على كل حال.

و قد يقال: إن الحكم بالضمان و ان ورد مورد الضرر، لكن يمكن تحكيم القاعدة فيه، لا بلحاظ ضرر نفس الضمان، بل بلحاظ ضرر آخر غير مترتب عليه دائما.

توضيح ذلك: ان الملحوظ- نوعا- في تشريع الحكم بالضمان و جعله هو ردع المكلفين عن إتلاف مال الغير، إذ بعد التفات العاقل إلى ورود الخسارة عليه عند إتلاف مال غيره لا يقدم على إتلافه، و نظير هذا الحكم تشريع الحدود و القصاص، فان الداعي فيه نوعا منع المكلفين من إيجاد موضوعاتها.

و مثل هذا أثر من آثار الحكم، نظير الارتداع المترتب على المنع التكليفي، فلو ترتب على الارتداع ضرر، صح اسناد ذلك الضرر إلى الحكم لأنه من آثاره بلحاظ كون الارتداع من آثار مثل هذا التشريع.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 460

و عليه، فنقول: ان الحكم بالضمان ضرري هاهنا، بلحاظ انه يترتب عليه الارتداع عن إتلاف

مال الغير، و يترتب على الارتداع حصول الضرر للشخص من السيل المتوجه إليه. فيمكن تحكيم القاعدة في الضمان بلحاظ هذا الضرر، و بالنتيجة يرتفع الضمان لو أقدم على إتلاف مال الغير.

و لكن يمنع هذا القول: بان رفع الضمان هاهنا يستلزم ورود الضرر على الغير، و هو النقص في ماله. و قد عرفت ان حديث نفي الضرر لا يشمل موردا إذا كان يستلزم من شموله ورود الضرر، لأنه خلاف ملاك نفي الضرر.

و عليه، فلا يكون الضمان موردا للقاعدة. فيبقى ثابتا بمقتضى دليله.

فانتبه.

الفرض الثالث: التولي من قبل الجائر.

و هو ذو صورتين:

الأولى: ان يكون المكره عليه هو الإضرار بالغير، بحيث يكون الضرر أولا و بالذات متوجها من قبل المكره على الغير، كما لو أمره الوالي بضرب شخص أو هدم داره و توعده على تركه بإضراره.

الثانية: ان يكون المكره عليه أمرا ضرريا بالنسبة إلى المكره، لكن كان يتمكن من دفع الضرر عن نفسه بإضرار الغير.

كما لو أمره بدفع عشرة دنانير و توعده على ترك العطاء بالضرب، و كان يتمكن من دفع الضرر عن نفسه بأخذ عشرة دنانير من الغير و دفعها إليه.

أما الصورة الأولى: فهي على نحوين:

فتارة: ينحصر ظلم الغير بالمكره بحيث لو تركه لا يقوم به أحد غيره.

و أخرى: لا ينحصر به، بل يتحقق على يده غيره.

أما الأول، فلا إشكال في ارتفاع الحكم التكليفي فيه، و هو حرمة إتلاف مال الغير أو التصرف فيه بدون رضاه و غير ذلك بحسب اختلاف الموارد، لعموم

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 461

أدلة رفع الإكراه و دليل نفي الضرر. و أما الحكم الوضعي، و هو ضمان التالف الثابت بمقتضى دليل: «من أتلف مال غيره فهو له ضامن».

فقد يقال: بارتفاعه عن

المكره، لأن تشريع مثل هذا الحكم يستلزم ارتداع المكلف عن الإتلاف، و الارتداع هاهنا ضرري، لأنه مخالفة للجائر المتوعد- و قد تقدم توضيح ارتفاع الضمان بلحاظ مثل هذا الضرر في الفرض الثاني-.

و لكن يدفعه: ان رفع الضمان أيضا يستلزم الضرر على الغير، و هو من أتلفت داره، و في مثله لا تجري قاعدة نفي الضرر كما أشرنا إليه في الفرض المتقدم. إذن فيتعين الالتزام بالضمان هاهنا أخذا بعموم دليله.

و أما الثاني، فلا إشكال أيضا في ارتفاع الحكم التكليفي فيه لدليل نفى الإكراه على نحو ما تقدم، و أما الضمان فهو مرتفع، لأن جعله ضرري على المكره لترتب الارتداع عليه المستلزم لا ضرار الجائر به، و لا يعارضه الضرر الواقع على الغير، إذ هو واقع على كل حال منه أو من غيره ممن لا يكون بصدد التعويض كنفس الوالي، فلا يكون تركه مستلزما لدفع الضرر عن الغير كما هو الحال في النحو الأول، لعدم انحصار الأمر به، فقد يقوم بالهدم من لا دين له و لا يهتم بدليل الضمان، و في مثله لا يكون جعل الضمان مستلزما لعدم الضرر، و مثل هذا الضرر لا يعارض الضرر المتوجه إلى المكره لو ترك العمل المكره عليه. فالتفت.

و أما الصورة الثانية: فلا وجه للالتزام بجواز نهب مال الغير لدفع الضرر عن نفسه، لأن دفع الضرر عن نفسه معارض بإضرار الغير. و هو واضح.

الفرض الرابع: ما إذا أدخلت الدّابّة رأسها في القدر بحيث دار الأمر بين كسر القدر و تخليص الدّابّة، أو قتل الدّابّة و تخليص القدر.

و هاهنا صور ثلاث: الأولى: ان لا يكون ذلك عن فعل شخص، بل يتحقق بدون اختيار. الثانية: ان يكون بفعل أجنبي. الثالثة: ان يكون

بفعل أحد المالكين.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 462

أما الصورة الأولى: فتارة: يكون القدر و الثور متساويين في الثمن، و لنفرض ان قيمة كل منهما عشرة دنانير. و أخرى: يكونان مختلفين فيه، كما لو كان ثمن القدر عشرة و ثمن الثور مائة.

أما إذا كانا متساويين، فنقول: ان لدينا حكمين أحدهما حرمة إتلاف صاحب القدر ثور الغير لتخليص قدره. و الآخر حرمة إتلاف صاحب الثور قدر الغير لتخليص ثوره.

و بما أن كلا من الحكمين ضرري بالنسبة إلى المكلف، فهما مرتفعان، و ترتب الضرر على الغير بواسطة رفع كل منهما، يندفع بثبوت الضمان على المتلف المخلّص لماله، فلا يعارض الضرر الناشئ عن تحريم التصرف، فيرتفع بلا ضرر، و لا تعارض بين إجراء: «لا ضرر» في أحدهما و إجرائه في الآخر، كما ان الضمان لا يمكن الالتزام برفعه بالبيان المتقدم في الفرض الثاني، لأن في رفعه إضرارا بصاحب المال التالف. إذن فلكل منهما التصرف في مال الغير لأجل تخليص ماله مع ضمان مال الغير.

هذا، و لكن لا يخفى أنه مع الحكم بالضمان لا يقدم أحدهما على تخليص ماله- بحسب الموازين العقلائية-، لأنه يفكر أنه سيخسر ما يساوي قيمة ماله الّذي يريد تخليصه، فأي داع عقلائي يدفعه إلى تخليص ماله؟ فيبقى كل منهما مكتوف اليد.

و في مثل ذلك يقطع بان الشارع جعل طريقة لتخليص أحد المالين. و عدم بقائهما محجوزين عن الانتفاع. و لا طريقة إلا بأن يلتزم بتوزع الضرر عليهما بالسوية لقاعدة العدل و الإنصاف المستفادة و المتصيدة من بعض النصوص، فإذا خلص أحدهما ماله يدفع إلى الآخر نصف قيمة ماله و هو خمسة دنانير في الفرض. و أما من يقوم بذلك، فذلك قد يرجع في تعيينه

إلى القرعة أو الحاكم الشرعي و قد يتولى الحاكم ذلك بنفسه حسبة.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 463

و أما إذا كانا مختلفين في الثمن، فلا معنى لأن يحمّل صاحب القدر نصف قيمة الثور لو فرض قتله، إذ نصف قيمته يزيد على قيمة قدره بأضعاف. بل يقال: إن الضرر الوارد على كل حال و على التقديرين بمجرد وضع الثور رأسه في القدر هو ما يكون قيمة القدر و هو عشرة، و أزيد منه لم يرد فعلا، فيوزع ذلك بينهما بالسوية.

و طبيعة هذا الأمر تقتضي إتلاف القدر و تخليص الثور، و دفع خمسة دنانير لصاحب القدر، إذ في إتلاف الثور إضرار بصاحبه بلا تعويض، فلا وجه له.

و أما الصورة الثانية: فالأجنبي لا بد ان يخسر قيمة إحدى العينين و هو عشرة- مع التساوي- و ليس الوجه فيه: أنه أضر بكل منهما، إذ لم يتحقق بعمله إتلاف مال كل منهما، كما انه لم يتحقق منه إتلاف الواحد المردد بينهما، إذ لا مالية للمردد.

و إنما الوجه فيه: انه بملاحظة مقتضى قاعدة العدل و الإنصاف من توزيع الخسارة الواردة على كلا الشخصين بحيث يلزم ان يخسر كل منهما نصف قيمة ماله إذا خلّص ماله و أتلف مال الغير، تهبط قيمة كل منهما قبل الإتلاف إلى النصف، بمعنى أن كلا من العينين لا يبذل بإزائه سوى خمسة بملاحظة تعيبه بعمل الأجنبي، فوجه خسارة الأجنبي هو انه أورد في كل من العينين عيبا أوجب نقص قيمته، فيؤخذ منه مقدار التفاوت. و عليه فتوزع العشرة المأخوذة من الأجنبي على كلا المالكين فيأخذ كل منهما خمسة.

ثم انه بعد إتلاف أحدهما و تخليص الآخر يدفع من خلص ماله نصف قيمة ماله إلى من أتلف

ماله كما تقدم في الصورة الأولى، فيحصّل أحدهما على ماله و يحصل الآخر علي قيمة ماله و هي عشرة.

و أما الصورة الثالثة: فقد يقال: إن أحد المالكين و هو المسبب قد أورد على صاحبه عيبا في عينه بحيث استلزم نقص قيمتها إلى النصف، فيلزمه أن يخسر

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 464

قيمة هذا الوصف و هو خمسة. ثم بعد تخليص عينه مثلا و إتلاف مال غيره يلزمه ان يدفع خمسة أخرى بمقتضى ما تقدم من توزيع الخسارة الواردة من التلف على كليهما بالسوية. و نتيجة ذلك: ان الخسارة كلها تصير عليه.

و من هنا قد يشكل: ان المالك المسبب إنما دفع الخمسة أولا بملاحظة النقص الوارد على مال الآخر من جهة توزع الخسارة بمقتضى قاعدة العدل و الإنصاف، فدفع خمسة أخرى بعد الإتلاف يتنافى مع العدل و الإنصاف، إذ مقتضاه ثبوت الخسارة كلها على المالك المسبب لا التوزيع.

و بعبارة أخرى: ان المالك المسبب قد عوّض عن الخسارة التي يستحق صاحبه التعويض عنها و هي النصف، فأي وجه لأخذ خمسة أخرى منه؟.

و هذا الحكم- أعني تضمين المالك المسبب جميع الخسارة- و إن كان موافقا للذوق و السليقة الفقهية، لكن تخريجه على القواعد الصناعية مشكل.

و من هنا ينقدح الإشكال في الصورة الثانية، فان الأجنبي بعد ما دفع الخسارة الواردة على كل من المالكين بملاحظة قاعدة العدل و الإنصاف، يكون أخذ نصف القيمة الآخر من أحد المالكين و دفعه إلى صاحبه بلا وجه، إذ الخسارة التي يستحق عوضها هي النصف و قد حصل عوضه، و أما النصف الآخر فهو مما لا يعوض بمقتضى توزيع الخسارة على المالكين بمقتضى قاعدة العدل و الإنصاف.

نعم، الحكم الّذي تقدم قريب بحسب

الذوق الفقهي و إن كان إثباته بحسب القواعد مشكلا.

نعم، قد يقال: ان الأجنبي لما أورد الضرر بمقدار عشرة دنانير، فيأخذ الحاكم الشرعي منه المال، ثم هو يختار في إتلاف إحدى العينين و تخليص الأخرى ثم يدفع العشرة إلى صاحب العين التالفة.

و هذا القول فقهيا وجيه، لكن لا يمكن تحقيقه على طبق القواعد في باب

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 465

الإتلاف و الضمان. فتدبر.

و بالجملة: ان الحكم باستحقاق من أتلفت عينه تمام العشرة مسلم لكن الإشكال في وجهه.

هذا تحقيق الكلام في هذه الفروض.

و قد أفاد السيد الخوئي في الصورة الثالثة من الفرض الرابع: ان اللازم إتلاف مال المسبب، معللا ذلك بلزوم رد المال إلى صاحبه «1».

و فيه: ان مفروض الكلام هو مورد لا يكون مال الغير تحت اليد بحيث يكون مضمونا على ذي اليد، إذ الكلام في ما يترتب على فعله من هذه الجهة خاصة دون سائر الجهات، فيفرض الكلام في مورد يكون مسببا في إدخال الثور رأسه في القدر من دون ان يجعل يده على القدر كي يكون ضامنا.

كما انه أفاد: ان الضرر المردد الوارد في الفرض الرابع ليس ضررا من جهة الحكم الشرعي بل هو ثابت مع قطع النّظر عن الحكم الشرعي.

و فيه: انك عرفت ان الضرر فيما نحن فيه ينشأ من الحكم الشرعي بحرمة تصرف كل منهما في مال الآخر و إتلافه، فلاحظ تعرف.

هذا تمام الكلام في ما يتعلق بما أشار إليه المحقق النائيني من الفروض في التنبيه السادس.

و بقيت صورة واحدة من صور تعارض الضررين، عقد لها المحقق النائيني التنبيه السابع. و هي: صورة تعارض ضرر المالك مع ضرر غيره كجاره، كما لو كان تصرف المالك في ملكه موجبا لتضرر

جاره، و ترك تصرفه موجبا لتضرره نفسه «2».

______________________________

(1) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول 2- 563- الطبعة الأولى.

(2) الخوانساري الشيخ موسى. قاعدة لا ضرر- 222- المطبوعة ضمن غنية الطالب.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 466

و قد أفاد الشيخ (رحمه اللّٰه) في هذا المقام: ان المرجع عموم: «الناس مسلّطون على أموالهم»، و لو عدّ مطلق حجره عن التصرف في ملكه ضررا لم يعتبر في ترجيح المالك ضرر زائد على ترك التصرف فيه، فيرجع إلى عموم التسلط. و يمكن الرجوع إلى قاعدة نفي الحرج، لأن منع المالك لدفع ضرر الغير حرج و ضيق عليه، إما لحكومته ابتداء على نفي الضرر و إما لتعارضهما، و الرجوع إلى الأصول. هذا ما ذكره الشيخ (رحمه اللّٰه) في المقام «1».

و قد ناقشه المحقق النائيني (رحمه اللّٰه) في بعض نقاطه.

و قبل التعرض لذلك ذكر صور تصرف المالك في ملكه المستلزم للضرر على جاره و هي أربعة:

الأولى: ان يكون التصرف في ملكه لدفع ضرر يتوجه عليه بترك التصرف.

الثانية: ان يكون التصرف في ملكه لجلب نفع من دون أن يكون هناك ضرر بتركه.

الثالثة: ان يكون التصرف في ملكه عبثا و لغوا لا لدفع ضرر و لا لجلب نفع مع قصد الإضرار بالجار.

الرابعة: ان يكون التصرف عبثا من دون قصد الإضرار.

و نوقع الكلام في كل صورة على حدة:

أما الصورة الأولى: فقد ذكر المحقق النائيني: ان ظاهر كلمات الأصحاب رعاية ضرر المالك، فيجوز تصرفه و لو كان ضرر الجار أعظم بل يجعلونه من مصاديق عدم وجوب تحمل الضرر لدفعه عن الغير.

و قد عرفت كلام الشيخ (رحمه اللّٰه) فيها.

______________________________

(1) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول- 317- الطبعة الأولى.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 467

و الّذي

ذهب إليه المحقق النائيني هاهنا هو: انه لا معنى لتعارض ضرر المالك و ضرر الجار، لأنه لا يمكن ان يصدر حكمان متضادان من الشرع. فالحكم المجعول منه إما جواز تصرف المالك في ملكه، و إما عدم جوازه.

فإذا كان الحكم هو جواز التصرف، كما هو مفاد عموم: «الناس مسلطون على أموالهم»، فلو كان ضرريا على الغير، كان مرفوعا بقاعدة: «لا ضرر»، و لو كان ذلك مستلزما لورود الضرر على المالك، إذ الضرر الناشئ من قبل حكومة:

«لا ضرر» على قاعدة السلطنة لا يمكن ان يكون مشمولا لقاعدة: «لا ضرر».

و إن كان الحكم هو حرمة تصرف المالك، فهو بما انه ضرري على المالك مرتفع عنه بقاعدة: «لا ضرر» و لو استلزم رفعه الضرر على الجار، لعدم شمول عموم: «لا ضرر» للضرر الناشئ من قبل تحكيمها.

و السر في ذلك: ان قاعدة: «لا ضرر» حاكمة على الأحكام الثابتة في الشريعة، فهي ناظرة إلى أدلتها و موجبة لقصرها على غير موارد الضرر. و من الواضح انه يقتضي فرض الحكم في مرحلة سابقة على القاعدة لتقدم المحكوم رتبة على الحاكم. و عليه فلا يمكن ان يكون دليل: «لا ضرر» شاملا للضرر الناشئ من قبل تحكيمه، لأنه يقتضي ان يكون ناظرا إليه و متأخرا عنه، و المفروض ان هذا الضرر متأخر عن دليل لا ضرر، فكيف يكون محكوما لدليل:

«لا ضرر»، فانه يلزم منه الخلف.

و هذا الإشكال ثابت، و لو قيل بشمول مثل قوله: «كل خبري صادق» أو: «كل خبري كاذب» لنفس هذه القضية بتنقيح المناط أو بوجه آخر، كما في شمول مثل: «صدق العادل» للخبر المتولد من تحكيمه على ما مر في مبحث خبر الواحد.

هذا ما أفاده المحقق النائيني (رحمه اللّٰه) و الّذي

قرّبه بحسب الصناعة حكومة: «لا ضرر» على قاعدة السلطنة، و مقتضاها عدم جواز تصرف المالك،

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 468

لكن في آخر كلامه ذكر وجها لتقديم قاعدة السلطنة، و هو ان ورود القاعدة مورد الامتنان يقتضي ان لا يكون رفع الضرر موجبا للوضع، فسلطنة المالك لا ترتفع بضرر الجار إذا كان ترك التصرف موجبا لوقوعه في الضرر.

و عليه، فالمورد لا يدخل في عموم القاعدة، فتبقى قاعدة السلطنة بلا مخصص.

و قد ناقش الشيخ (رحمه اللّٰه) في بعض نقاط كلامه المتقدم:

منها: ما ذكره (قدس سره) من شمول دليل نفي الحرج لعدم السلطنة، باعتبار ان منع المالك عن التصرف في ملكه حرج و ضيق عليه.

فقد ناقشه: بان الحرج المنفي في دليل نفي الحرج هو الحرج الطارئ على الجوارح لا على الجوانح، فالمرفوع ليس هو الحرج النفسيّ و المشقة الروحية، بل الحرج الخارجي البدني.

و منها: ما ذكره من احتمال حكومة دليل نفي الحرج على قاعدة نفى الضرر.

فقد ناقشه بوجهين:

أحدهما: ان دليل نفي الحرج كدليل نفي الضرر لا نظر له إلا إلى الأحكام الوجودية دون الأحكام العدمية، فهو لا يتكفل سوى الرفع دون الوضع. و عليه فإذا تكفل دليل نفي الضرر رفع السلطنة، فدليل نفي الحرج لا يعارضه، لأنه لا نظر له إلى عدم السلطنة لأنها حكم عدمي.

و الآخر: ان الحكومة تتقوم بنظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم، و ليس الأمر كذلك بالنسبة إلى دليل نفي الحرج، فانه في عرض دليل نفى الضرر، فلا معنى لفرض نظر دليل نفي الحرج إلى دليل نفي الضرر، بحيث يؤخذ دليل نفي الضرر متقدما على دليل نفي الحرج، بل هما دليلان في عرض واحد ناظران إلى الأحكام الثابتة في الشريعة، فكل منهما

يعارض الآخر، و ليس

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 469

هنا حاكم و محكوم. أو فقل: إن كلا منهما في نفسه ناظر إلى الدليل الآخر، فيتحقق التحاكم المستلزم للتعارض.

هذا ملخص ما أفاده (قدس سره) في هذا المقام. و هو بجميع جهاته قابل للمنع.

و لنبدأ بمناقشته للشيخ (رحمه اللّٰه)، فنقول:

أما ما ذكره من ان الحرج المنفي في دليله لا يشمل الحرج الطارئ على الجوانح، فهو دعوى لا نعرف لها دليلا واضحا، و مقتضى إطلاق لفظ الحرج في دليل نفيه إرادة الأعم من الحرج الطارئ على الجوارح و الحرج الطارئ على الجوانح، فكل ما يطلق عليه لفظ الحرج كان منفيا. و لا وجه لدعوى عدم صدق مفهوم الحرج على الحرج الجوانحي. فلاحظ.

و أما ما ذكره في مناقشة دعوى الحكومة من الوجهين:

فالوجه الأول، يندفع: بان مفروض كلام الشيخ (رحمه اللّٰه) كون المورد من موارد تعارض الضررين، بحيث فرض المورد من موارد جريان: «لا ضرر» في حكمين فيتحقق التعارض، و جعل: «لا حرج» جارية بمكان: «لا ضرر». و هذا يعني فرض كلا الحكمين وجوديين.

و حل المشكلة، ان مجرى لا حرج ليس هو عدم السلطنة، بل منع المالك من التصرف في ملكه. و بعبارة أخرى: حرمة التصرف المؤدى إلى ضرر الجار، و هو حكم وجودي لا عدمي.

و أما الوجه الثاني: فلأن كلا من دليل نفي الضرر و دليل نفي الحرج و ان كان دليلا موضوعه العنوان الثانوي و مقتضى ذلك كونهما في عرض واحد، لكن نقول: إن دلالة أحدهما على عموم موضوعه لمورد الآخر إذا كانت أقوى من دلالة الآخر على العموم كان عموم الأقوى هو المقدم. و يلتزم بعدم عموم الآخر، و تكون النتيجة هي حكومة القوي دلالة.

القواعد

الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 470

و ذلك نظير ما إذا كان الدليل المحكوم في بعض الافراد نصا في دلالته، فانه يقدم على الدليل الحاكم و ان كان ناظرا إلى الدليل المحكوم. فان النصوصية بنظر العرف تقدم على جهة النّظر، فمثلا لو كان: «أكرم كل عالم» نصا في زيد الفاسق العالم لأنه مورده- مثلا- ثم ورد ان العالم الفاسق ليس بعالم، فانه لا يشمل زيدا، و إن كان ناظرا إلى دليل: «أكرم كل عالم»، و النّظر إليه يوجب تقديمه عليه بحسب العرف، لكن لكونه نصا في ذلك الفرد، فالنصوصية تكون مقدمة على كون الحاكم ناظرا.

و نظير ذلك- و ليس منه- ما نحن فيه، فان عموم دليل نفي الضرر لجميع الأحكام ليس بالتصريح، و انما هو من باب ان حذف المتعلق يفيد العموم، أو من باب عدم البيان في مورد البيان.

و أما عموم دليل نفي الحرج لجميع الأحكام فهو بالنص و التصريح.

لقوله تعالى: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، و الدين اسم لمجموع الأحكام و القواعد المجعولة. فيكون نظره إلى موارد الضرر بالنصوصية.

و أما نظر دليل نفي الضرر إلى موارد الحرج فهو بالإطلاق و نحوه. و لا يخفى ان عموم دليل الحرج أقوى فيكون مقدما، و يلتزم بعدم شمول دليل الضرر لموارد الحرج. و نتيجة ذلك حكومة قاعدة: «لا حرج» على قاعدة: «لا ضرر».

فما أفاده الشيخ (رحمه اللّٰه) من احتمال الحكومة ليس بعيدا عن الصواب.

و أما ما ذكره النائيني (قدس سره): من ان مورد تعارض ضرر المالك مع ضرر الجار ليس من موارد تعارض الحكمين الضرريين، بل ليس هنا إلا حكم واحد ضرري و رفعه و ان استلزم الضرر لكن الضرر الناشئ من قبل تطبيق

قاعدة نفي الضرر لا يمكن ان يكون مشمولا لدليل نفي الضرر للزوم الخلف.

فهو بظاهره و إن كان محل منع واضح، إذ يمكن حل الإشكال المزبور

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 471

بالالتزام بانحلال نفي الضرر إلى افراد متعددة بعدد افراد الأحكام الضررية، فيكون النفي المتعلق بالحكم الناشئ من قاعدة: «لا ضرر» غير النفي الّذي نشأ منه الحكم الضرري فلا خلف. نظير حل الإشكال في شمول دليل حجية الخبر لخبر الواسطة.

و لكن يمكن أن يكون مراده وجها آخر غير ما هو ظاهر العبارة، و هو:

ان دليل نفي الضرر إذا تكفل نفي السلطنة و جواز تصرف المالك لكونه ضرريا على الجار، ثبت بذلك حرمة التصرف في الملك. فإذا أريد تطبيق: «لا ضرر» بالنسبة إلى هذه الحرمة باعتبار انها ضررية على المالك، كان معنى ذلك نفى: «لا ضرر»، لأن الحرمة ثابتة بالقاعدة، فإذا فرض نفيها كان معناه عدم جريان القاعدة و عدم تماميتها، و هو معنى نفي قاعدة: «لا ضرر». و هذا يقتضي ان يلزم من وجود القاعدة عدمها.

و بما ان منشأ ذلك هو إطلاق: «لا ضرر» بحيث يشمل الضرر الناشئ من تطبيقها، كشف ترتب هذا المحذور عن عدم وجود الإطلاق، بحيث يشمل الضرر الناشئ من قبل نفس القاعدة، و يترتب على ذلك ان الحرمة الناشئة من قبل تطبيق: «لا ضرر» في قاعدة السلطنة لا تكون مشمولة للقاعدة و إن كانت ضررية، إذ الإطلاق يلزم منه أن يكون تطبيق: «لا ضرر» في قاعدة السلطنة- بما انه يهيئ موضوعا آخر للقاعدة- مستلزما لعدمه و هو محال، فيرتفع الإطلاق لأنه منشأ المحذور العقلي.

و هذا المحذور يشابه المحذور من شمول مثل: «كل خبري كاذب» للقضية نفسها و نحوه مما يتكفل

حكما سلبيا. و لا يتأتى مثل هذا في مثل: «كل خبري صادق» في شموله لنفسه، أو مثل: «صدق العادل» في شموله لخبر الواسطة، بل المحذور فيه ليس الا محذور الطولية و التأخر و التقدم الرتبي الّذي يندفع في محله بالالتزام بالانحلال أو بتنقيح المناط و نحو ذلك.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 472

و لكن لا يخفى عليك انه يمكن منع ما ذكره بهذا التقريب الّذي ذكرناه:

بأنه انما يلزم إذا كان موضوع نفي الضرر هو الحكم الضرري المحقق، نظير قوله: «كل خبري كاذب» في كون موضوعه الخبر المتحقق خارجا.

و لكن الأمر ليس كذلك، إذ يمتنع ان يكون المنفي بلا ضرر هو الحكم الثابت المحقق، إذ نفيه خلف تحققه، لأن المراد بنفي الضرر نفي حدوثه لا نفى بقائه، كي لا يتنافى مع فرض ثبوته.

و انما المنفي بقاعدة: «لا ضرر» هو الحكم الضرري المقدر، بمعنى ان كل حكم إذا فرض وجوده كان ضرريا، فهو مرتفع و غير ثابت. و إذا كان الحال كذلك لم يمتنع ان يشمل أحد افراد نفي الضرر حكما ضرريا ناشئا من فرد آخر، و لا يلزم منه المحذور المتقدم.

و ذلك لأن شموله لذلك الحكم ليس متفرعا على تحققه كي يكون نفيه مستلزما لانتفاء نفس ذلك الفرد، فيكون الفرد محققا لموضوع ما ينفيه، بل يكون شموله متفرعا على فرض وجوده و تقديره، فيقال: الحرمة إذا ثبتت هاهنا تكون ضررية فتنفى ب: «لا ضرر». فنفيه بهذا الفرد يكون منافيا لإثباته بالفرد الأول فيتحقق التعارض بينهما، فان الفرد الأول لعموم: «لا ضرر» يستلزم ثبوت هذا الحكم، و الفرد الآخر يستلزم نفيه، و لا يكون الفرد الثاني من آثار الفرد الأول كي يقال ان الفرد الأول يستلزم

ما ينفيه فيلزم من وجوده عدمه.

و أما ما ذكره من الوجه الفقهي لعدم شمول قاعدة نفي الضرر لعموم السلطنة، فسيعلم ما فيه من مطاوي ما نذكره في تحقيق المختار في المسألة.

و تحقيق الحال في هذا الفرع، هو: ان قاعدة السلطنة و جواز تصرف المالك في ملكه لا يكون مشمولا لقاعدة نفي الضرر لوجهين:

أحدهما: ان الجواز و الإباحة ليس من الأحكام المستتبعة للضرر، فلا يلزم من جعلها الضرر، كما لا يلزم من رفعها رفع الضرر، فعدم جعل الإباحة لا يعني

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 473

التحريم، بل يعني ان المولى لا دخل له في الفعل نفيا و إثباتا. نعم عدم اللزوم يمكن ان يقال ان في رفعه رفعا للضرر، لكنه أمر عدمي لا يشمله عموم نفى الضرر.

الثاني: ان عموم السلطنة لا يشمل مورد ترتب الإضرار على الغير من التسلط. فهل يدعى أحد أن عموم السلطنة يقتضي جواز تصرف المالك في سكينة بذبح شاة الغير؟ فهو لا يتكفل سوى جعل السلطنة في الجملة. إذن فدليل السلطنة يقصر عن شمول ما نحن فيه كي يكون مشمولا لنفي الضرر.

و عليه، فالحكم الّذي يكون موردا للقاعدة ليس إلا حرمة الإضرار بالغير أو إتلاف ماله، و بما ان حرمة الإتلاف ضرري على المالك فترتفع ب: «لا ضرر»، فيثبت جواز التصرف له، فليس المورد من موارد تعارض الحكمين الضررين.

و دعوى: ان رفع الحرمة يستلزم الضرر على الجار فكيف يرفع التحريم ب: «لا ضرر»؟.

تندفع بما أشرنا إليه غير مرة من أن ضرر الغير متدارك بالضمان، فلا يزاحم ضرر المالك. و كون جعل الضمان ضرريا بلحاظ اثره قد عرفت انه لا يصحح جريان: «لا ضرر» فيه، فراجع الفرض الثاني.

و عليه، فالذي نلتزم

به: انه يجوز للمالك التصرف في ملكه مع ضمانه التلف الوارد على مال الغير.

هذا إذا كان الضرر الوارد على الغير مضمونا كالضرر المالي.

أما لو لم يكن مضمونا، كالضرر العرضي أو الأذى النفسيّ. فنلتزم بارتفاع حرمة الإيذاء لأنها ضررية على المالك.

و دعوى: كون ذلك خلاف ملاك دفع الضرر، لاستلزامه الضرر على الغير.

تندفع: بأن الشي ء الثابت كون الملحوظ في نفي الضرر هو الضرر المالي

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 474

و ما يشابهه، لا مثل الإيذاء الروحي. فترتب الأذى النفسيّ على تحكيم: «لا ضرر» ليس منافيا لملاك نفي الضرر. نعم «1» إذا ترتب الضرر في العرض أمكن الالتزام بعدم ارتفاع التحريم.

و أما الصورة الثانية: فالحكم فيها هو الحكم في سابقتها، لو قلنا بان عدم النّفع ضرر مشمول لحديث نفي الضرر. و هو مشكل على إطلاقه و قد تقدم الكلام فيه في أوائل البحث في بيان معنى الضرر.

و أما الصورة الثالثة: فلا وجه لارتفاع حرمة إتلاف مال الغير أو إضراره فيها، لعدم كونها ضررية على المالك. و منه يظهر الحكم في الصورة الرابعة، فلاحظ و تدبر.

هذا تمام الكلام في حديث نفي الضرر و شئونه.

و يقع الكلام بمناسبة الضرر في

حرمة الإضرار بالنفس

اشارة

. و الكلام في مقامين:

الأول: في ثبوت حرمة الإضرار بالنفس كإضراره ببدنه أو بماله.

الثاني: في نسبة دليل حرمة الإضرار بالنفس- لو تم- مع أدلة الأحكام الثابتة الشاملة بعمومها مورد الضرر مع التعارض.

أما الكلام في المقام الأول

، فقد أهمله السيد الأستاذ (دام ظله)، باعتبار ان عمدة ما يمكن ان يستدل به على حرمة الإضرار بالنفس هو حديث نفي الضرر، بناء على استفادة جعل تحريم الضرر منه، فيشمل بعمومه ضرر النّفس.

و لكن الظاهر من حديث نفي الضرر إرادة ضرر الغير لا النّفس، فلا يكون دليلا على حرمة ضرر النّفس.

فلا بد في استفادة حرمة الضرر من مراجعة الأدلة في الأبواب المختلفة،

________________________________________

قمّى، سيد محمد حسينى روحانى، القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، 3 جلد، چاپخانه امير، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)؛ ج 5، ص: 474

______________________________

(1) لعل وجهه أن مورد رواية سمرة الضرر العرضي.

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 475

فلعله يمكن ان يستنبط منها تحريم إضرار النّفس.

و هذا مما لا يسعه المجال فعلا. و من هنا نقل الكلام رأسا إلى ..

المقام الثاني

اشارة

: و تحقيق الحال فيه: ان الكلام تارة في الأحكام الترخيصية.

و أخرى في الأحكام الإلزامية.

أما الحكم الترخيصي

، فالإباحة ثبوتا تتصور على أنحاء ثلاثة:

الأول: ان يكون ملاك الإباحة هو كون الفعل لا اقتضاء فيه بنفسه للإلزام بأحد طرفيه، بل كان وجوده و عدمه على حد سواء.

الثاني: ان تكون الإباحة لأجل وجود مصلحة اقتضائية في عدم الإلزام بأحد الطرفين و إباحة الفعل له. و لكن كان موضوع ذلك هو الفعل الّذي لا اقتضاء فيه للإلزام، بمعنى: ان المصلحة الملزمة في جعل الإباحة انما تكون في خصوص هذا المورد.

الثالث: ان تكون الإباحة لأجل وجود مصلحة ملزمة في جعلها، بلا ان يتقيد موضوعها بما لا اقتضاء فيه للإلزام، بل كانت المصلحة الملزمة في جعل الإباحة في مطلق موارد الفعل.

فان كان دليل الإباحة يدل على الإباحة بالنحو الأول، فلا يعارض دليل حرمة الإضرار بالنفس، بل دليل الحرمة هو المحكم، إذ ما يدل على عدم اقتضاء الفعل بنفسه للإلزام بأحد طرفيه لا يتنافى مع الدليل الّذي يدل على اقتضاء الترك فيه لأجل الضرر. و لذا قيل ان ما لا اقتضاء فيه لا يتنافى مع ما فيه الاقتضاء.

و إن كان الدليل يدل على الإباحة بالنحو الثاني، فالأمر كذلك، لأن دليل حرمة الإضرار بالنفس يثبت وجود المقتضي للإلزام بالترك في مورد الضرر، فيخرج المورد عن موارد مصلحة جعل الإباحة.

و إن كان الدليل يدل على الإباحة بالنحو الثالث، كان معارضا لدليل

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 476

حرمة الضرر كما لا يخفى.

هذا بحسب مقام الثبوت.

و أما بحسب مقام الإثبات، فالظاهر عرفا من دليل الإباحة كونه من النحو الأول، و لذا لا يرى هناك تعارض عرفا بين دليل السلطنة على النّفس أو المال و بين

دليل تحريم إضرار الغير أو النّفس، بل قد عرفت ان العرف لا يرى ان دليل السلطنة يشمل موارد الإضرار بالغير، فلاحظ.

و من هنا يظهر الحكم في تعارض دليل الاستحباب مع دليل حرمة الضرر بالنفس.

و أما الحكم الإلزامي

، كالوجوب، فهو على نحوين، لأن عموم الدليل تارة يكون بدليا، و يكون الضرر في أحد افراده، كالصلاة بالكيفية المخصوصة.

و أخرى يكون شموليا أو بدليا، و يكون الضرر في أصل الطبيعة، كالوضوء الضرري أو الصوم الضرري الواجب كصوم شهر رمضان أو الصوم المنذور.

ففي الأول: لا تعارض بين دليل التحريم الشامل لهذا الفرد و بين دليل الواجب، لأن دليل الوجوب يتعلق بالطبيعة، و يترتب على ذلك الترخيص في تطبيق الواجب على كل فرد من أفراده، فالتعارض في الحقيقة بين دليل الترخيص في تطبيق الطبيعة على هذا الفرد الضرري، و بين دليل تحريم الضرر، و قد عرفت حكم تعارض دليل الترخيص مع دليل حرمة الضرر.

و بعبارة واضحة: ان الترخيص في تطبيق الطبيعة على كل فرد انما هو بلحاظ تساويها في تحصيل الواجب بلا مانع. و مع وجود ملاك التحريم في أحدها- لأجل الضرر- لا يكون دليل الترخيص شاملا له لوجود مفسدة ملزمة في هذا الفرد، فلا معنى للترخيص عقلا أو شرعا فيه فلاحظ.

و في الثاني: يتحقق التعارض بين الدليلين، إذ مقتضى إطلاق الوجوب ثبوت الحكم حتى في مورد الضرر، و لو بلحاظ ذات الواجب. و مقتضى إطلاق

القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، ج 5، ص: 477

الحرمة ثبوت الحرمة في مورد الوجوب، فيتعارضان للتنافي بين الوجوب الثابت للشي ء و لو بلحاظ ذاته و بين الحرمة الثابتة له بلحاظ عنوان ثانوي طارئ.

و ليس كذلك الحال في دليل الإباحة لأنه و ان شمل بإطلاقه مورد الضرر، الا

انه يدل على إباحة الشي ء بلحاظ نفسه. و من الواضح انه لا تنافي بين إباحة الشي ء بعنوانه الأولي و بين حرمته بعنوان ثانوي. فتدبر.

لكن يهون الخطب ان المثال المذكور للمعارضة خارج عن ذلك، لأن وجوب الوضوء يرتفع رأسا بمجرد خوف الضرر لا من جهة عدم التمكن عرفا من استعمال الماء مع ترتب الضرر عليه، أو فقل: إن دليل تحريم الضرر رافع لموضوع وجوب الوضوء لأخذ القدرة العرفية فيه و الممنوع شرعا كالممتنع عقلا، فلا تصل النوبة إلى المعارضة، و هكذا الحال في الصوم الواجب الرمضاني أو النذري إذ أخذ في موضوع وجوب الصوم القدرة، كما انها مأخوذة في موضوع وجوب الوفاء بالنذر كما حقق في محله. فلاحظ. و تدبر.

و اللّٰه سبحانه ولي التوفيق و هو حسبنا و نعم الوكيل. انتهى مبحث نفى الضرر- الأربعاء 13- 2- 1392 ه.

________________________________________

قمّى، سيد محمد حسينى روحانى، القواعد الفقهية (منتقى الأصول)، 3 جلد، چاپخانه امير، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.